واجهات المحلّات الفارغة... مرايا تُحدِّق برعب

11 يونيو 2020
غياب الواجهات يهدد علاقتنا مع المدينة (Getty)
+ الخط -
أغلقت المحلات بسبب حظر التجول الصحي الطارئ، وبالرغم من عودة بعضها إلى الحياة؛ فما زال هناك شيء غير طبيعي. كثير من المحلات لم تفتح أبوابها، أو تغلق باكراً، الأسواق مكتظة لكن الواجهات فارغة، أو تحوي تشكيلات قديمة، غير عصريّة.
يتأمل المارة بعضهم بعضاً، مقنّعين، لا يكتظون، هناك تحديقة رعب في أعين الجميع، أما الواجهات، فمغلقة، أو مليئة بتحذيرات عن خطر العدوى. غياب الواجهات هذا أدى إلى غياب المتنزِّه و"الداندي" ومتسوقي الواجهات، أولئك الذين نمارس سلوكهم أحياناً، الذي نترصد إثره الموضة، ومفاهيم المعاصرة، التي إما نختلف عنها أو نتطابق مع حكايتها، عبر سلوك بسيط، محاولة جعل انعكاس جسدنا على الزجاج يستبدل النموذج الأبيض كي نظهر نحن ولو لثوانٍ نرتدي ما يرتديه.
هذه العلاقة مع الفضاء العام وواجهة المحلات شبه متلاشية حاليا، لا وقت للنظر والتأمل، السائد هو سرعة بالمشي ومحاولة تحاشي الآخرين. ما نعرفه عن العالم وشكله قادم من الأخبار ومن الشاشات المحيطة بنا، لا فضاء آمناً للتنزه، وتأمل الواجهات والاستطراد باحتمالات جديدة لحياتنا إن نحن اشترينا قميصاً جديداً أو بنطالاً بلون غريب.

هيمنت الشاشات الآن على كل حياتنا؛ التسوق، التواصل، التسلية، كل أنشطتنا أسيرة الشاشة كون الخارج خطِراً. وعوضاً عن الواجهة، ومتعة التلصص والوقوف إلى جانب الفضوليين والمتأملين، أصبح الواحد منا يشاهد عارضي أزياء يرتدون الثياب، ويستعرضونها على مساحات بيضاء. أجساد متقنة تبيعنا أناقة الصورة لا حيويّة اليومي ومشكلاته.
الأهم، لا مجال للتمايز عن الأقران أثناء التحديق في الشاشة، الواجهة تتيح لنا مشاهدة من في الداخل، ما يشترونه وما يتركونه، نختبر عبر الواجهة الحرمان ومتعة مشاهدة أولئك الأغنى أو الأفقر. نحن في الخارج لكننا محميون من الحكم الاقتصادي، لا يفضحنا سوى ثيابنا، تلك التي بقليل من الذوق، يمكن أن تخفي قدرتنا الشرائيّة.
غواية الشاشة مصممة بدقة لتستهدفنا. المنتجات التي نراها مبرمجة مسبقاً. نبحث فقط عما نريده عند أول نافذة، بعدها تتجلى سلطة الخوارزميات، تبث أمامنا ما نريد وما لا نريد، لا نعلم من أيضاً أشترى نفس ما نريد شراءه، ولا هويته، فقط صور لكيفية عمل المنتج أو شكل القميص، وبعدها القرار مباشرة، نشتري أم لا نشتري.
غياب الواجهات يهدد علاقتنا مع المدينة، تتحول إلى مساحة وظيفية بحتة، للانتقال والعمل، لا مجال للانتماء إليها عبر تبني رموزها، خصوصاً أن العلامة الوحيدة المنتشرة بين الجميع هي الكمامة. أثرٌ على الصحة أو المرض، لا ذوق وراء الكمامة، بل مجرد سعي للتجانس في ظل الطوارئ الصحيّة، المدينة بلا واجهات وعلامات وضجيج، الأسواق بلا أي طعم، مجرد فضاءات لتلبية متطلبات الحياة، ورق تواليت، طعام، وبعض الأدويّة.

إن كان الانعكاس على المرآة يذهب بعيداً ويعود ليتطابق معنا، فالانعكاس على الواجهة يذهب، ويعود مختلفا، نرى أنفسنا في عالم عجائبيّ، ففضاء الواجهة سحري، الانعكاس فيه يشبهه، لكن ضمن سياق مختلف. ننتقل من السوق والفضاء العام إلى مساحة متخيّلة، متعة تشابه متعة السينما حين نتماهى مع واحدة من الشخصيات، المشهد متكرر في العديد من الأفلام، تتخيل واحدة من الشخصيات نفسها في الواجهة لثوان، قبل أن تعود إلى الواقع/ السوق، لعنة الواجهة تتجلى بالزجاج، هي غير موجودة سوى في الانعكاس. الأهم أن كثيرين منا يعلمون، أن غرضاً واحداً سيكون من نصيبهم، أو لا شيء. لكن أحياناً مجرد متعة التخيّل تكفي، ليس فقط لأننا خلالها نعيش في "الواجهة"، بل هناك مارة يحدّقون بنا ويحسدوننا على "القفص" المؤقت الذي يأسر العقل.
دلالات
المساهمون