وائل شوقي: صنعتُ دمى زجاجية لهشاشة البشر

18 اغسطس 2015
+ الخط -
"كاباريه الحروب الصليبية"، عنوان أوّل معرض فردي يقيمه الفنان المصري وائل شوقي في الولايات المتحدة الأميركية ويستمر حتى نهاية شهر أغسطس/ آب في متحف "MOMA PS1" في مدينة نيويورك. يتناول شوقي في معرضه ثيمة تاريخية معقّدة؛ الحروب الصليبية وعلاقة الغرب الأوروبي بالشرق العربي المسلم. مستعملًا وسائط متعددة في العرض الذي توزع على ست صالات تفاوتت في حجمها ووظائفها. مسائل عدّة تحفّ بمعرض وائل، من بينها "صراع الحضارات" والصور النمطية والروايات التاريخية، من دون أن يغفل الأسباب والدوافع الاقتصادية لشن تلك الحروب حتى داخل أوروبا. مركزًا على صراعات العرب وقادتهم، مازجًا بين السوريالية والتاريخ والأسطورة والدراما.
استطاع الفنان المصري تحقيق ذلك من طريق ثلاثية سينمائية تتبع جزءًا من تاريخ تلك الحروب، بين عامي 1096 و1099؛ فيلم "كباريه الحروب الصليبية: ملفات العرض المرعب"، و"كاباريه الحملات الصليبية: الطريق إلى آلقاهرة"، و"كاباريه الحملات الصليبية: أسرار كربلاء".
تؤدّي الدمى بأزيائها المميّزة دور الشخصيات الرئيسة في الأفلام وتقدّم عروضاً ملحمية وحوارات مغناة تحاكي عروض الأوبرا بزيها وأسلوبها وتنوّع موسيقاها.
وقد التقى "ملحق الثقافة" الفنان شوقي، وسأله أولًا عن الكيفية التي تبلور فيها هذا المعرض في ذهنه، وعمّا إذا كانت رواية الكاتب اللبناني أمين معلوف الشهيرة "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، قد أثّرت في عمله. فأجاب: "راودتني فكرة عمل مشروع يتناول الحروب الصليبية والعلاقة بين الشرق والغرب منذ مدة طويلة. بدأت البحث والقراءة بشكل مكثف، وخلال ذلك قرأت رواية معلوف التي ذكرتها، إلا أنني لم أعتمد عليها مصدرًا أساسًا، لأنها في نهاية المطاف مصدر "بسيط"، من دون أن أنفي أنها شكّلت إلهامًا بالنسبة لي، واستفدت من توثيق الرواية للمصادر العربية القديمة، مثل كتابات أسامة بن منقذ والمؤرّخ الدمشقي ابن القلانسي، واعتمدت على الرواية في الحوار أيضًا واستأنست ببنيتها الدرامية". ونظرًا إلى تداخل الفني بالتاريخي في هذه الثلاثية، كان لا بدّ من السؤال عن ذلك، فقال شوقي إن "السيناريو أمين للمصادر العربية وغيرها من المصادر المستخدمة"، إلا أن "الأشكال والملابس والموسيقى والأجواء هي في نهاية المطاف مبنية على المتخيّل".
وممّا لا شكّ فيه أن للدمى المميزة المصنوعة من الزجاج والسيراميك، أثراً بهيّاً في هذا العمل الفني المركّب. ويبدو أن مصادرها متنوعة لدى شوقي الذي يوضح ذلك: "راودتني للمرة الأولى فكرة الدمى عندما كنت في زيارة لمتحف المتروبوليتان في نيويورك. عندها قمت برسومات لأقنعة أفريقية شاهدتها بالمتحف، لكن الفكرة طبعاً تطورت وتأثرت بمصادر وإلهامات عديدة؛ منها مسرح الدمى الموجود في مصر، الذي تعود جذوره إلى بلاد أخرى كروسيا وتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) ورومانيا وغيرها من الدول الأوروبية والشرقيّة منها خصوصًا، وكان على الموضوع أن يذهب إلى أحد أصوله أي إيطاليا. وقد اخترت تصميم دمى من زجاج وسيراميك وتصنيعها منهما، لأن ذلك يسفر عن العلاقة بين المادتين والتاريخ،
فمدينة فينيسيا معروفة بصناعة الزجاج وأدّت دوراً في الحروب الصليبية وتحالفت مع فرنسا من أجل مصالحها التجارية. لذلك قررت استعمال الزجاج الذي لا يستخدم عادة بمسرح الدمى المتحركة لأسباب كثيرة من بينها صعوبة تصنيعه وإمكانيات كسره. صنع المادة من الزجاج يرمز كذلك إلى هشاشة البشر، هؤلاء البشر الذي يقومون بكل هذه الحروب والقتل في الماضي والحاضر".

اقرأ أيضاً: جنزير: الفنان همزة وصل بين عمله وناظره

وإن كان معرض شوقي هذا في نيويورك يمتح من التاريخ والأدب، فإنه بذلك لا ينفصل عن مسيرة هذا الفنّان المهووس بالتاريخ، كما تشهد على ذلك أعماله السابقة؛ ذلك لأن مصدر عمله "مربع الإسفلت" كان كما لا يخفى رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، ذات الطابع التأريخي الواضح. أمّا عمله "قناة اليرقات"، فقد شكّلت حالة اللجوء الفلسطيني المستمرة مصدره وإلهامه أيضًا. وفي هذا الصدد يقول شوقي: "أعتقد أن معالجة مواضيع تاريخية بشكل فنّي يمكن أن تكون أفضل، بسبب حاجتها لعنصر الزمن، عن طريق الموسيقى والسينما، من دون أن يعني أن الأخيرة لن تحتوي على تأثير الرسم. ربما لاحظتي في الأفلام الثلاثة أن الكثير من المشاهد تحاكي الرسم. أمّا التاريخ، فقد كانت البداية عام 2003، مع موضوع متعلق بحياتي الشخصية أو جزء منها، وهي السنوات التي عشتها في السعودية، ولذلك تناولت رواية منيف واستوحيت منها في العمل الذي ذكرتِه، إلا أن تنفيذه كان في مصر لا السعودية، وقمت بذلك على النحو الآتي: يكتب منيف أن السكان المحليين في السعودية عملوا مع شركات البترول من دون أن يدركوا أنهم في صدد بناء وجه السعودية وما ستكون عليه في العقود القادمة. لذا استعنت بأطفالٍ بدوٍ، من منطقة الوادي الجديد بمصر. قمنا معًا بمشروع بناء مدرج طيران، وهم لا يعرفون ما الذي يقومون به بالضبط، ووثّقنا كلّ هذه المراحل بفيلم. وكان العمل بهذا الشكل مهمّاً لأسباب عدة؛ أولاً، كما في الرواية، لم يدرك الأطفال ما الذي يقومون به، بمعنى الصورة الكبرى. كما أن العمل مع الأطفال بالنسبة لي أفضل من العمل مع ممثلين محترفين، لأن الأطفال يتصرفون بشكل طبيعي، فتصبح القيمة التاريخية للقصة أو للعمل الفني أهمّ، وتأخذ معهم حيّزها الذي تستحقه".
وابتدع شوقي في عمله عن اللاجئين الفلسطينيين "قناة اليرقات"، الذي صوّر في أحد المخيمات الأردنية، طريقة أخرى، فقد صوّر الفيلم وقام بالمونتاج، ومن ثمّ حوّله إلى فيلم رسوم متحرّكة. ما حتّم السؤال عن هذا، فأجاب الفنّان: "يتعامل هذا الفيلم مع موضوع اللجوء وتهجير الفلسطينيين. ويتناول حياة رجل وامرأة طاعنين، يجلسان ويتحدّثان عن همومهما اليومية. المسألة أن الكثيرين سمعوا قصص التهجير الفلسطيني أو حياة المخيمات وما عادوا يبالون بها. فما الذي سيضيفه فيلم مدته عشر دقائق يتناول حديثاً عن هموم يومية؟ لذلك كان من المهم أن أُدخل وسيطاً آخر، فاخترت الرسوم المتحركة. قمت أولًا بتحليل الفيلم وتقسيمه لأطر. ومن المعروف أن كلّ ثانية في الرسوم المتحركة تحتوي على 24 إطاراً أو رسمة. فكّكت كلّ هذه الصور خلال العشر دقائق الكاملة، ثم تمّ رسمها واحدةً واحدة، للحصول على الفيلم نفسه لكن بصورة رسوم متحركة. استغرق ذلك حوالي شهر ونصف الشهر، ونفذه ستة رسامين. عن طريق رسم كلّ جزء من الثانية، نقدّم نوعاً من إعادة الاعتبار للموضوع، فيدخل المشاهد في دوامة السؤال الدائم؛ أهو فيلم "حقيقي" أم رسوم متحركة فقط؟ وبذلك يخرج من لامبالاته".
نلاحظ في مجمل أعمال شوقي أن ميله إلى الفنون والأدب عمومًا يمكن أن يشكّلا رواية بديلة للمظلومين، تغني عن التاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصرون. فرغم استناد الفنّان الواضح إلى التاريخ، إلا أن وجهة نظره في الأمر خاصّة، إذ يقول: "المسألة أننا وللأسف كعرب ما زلنا لم نكتب تاريخنا بعد. حتى الأمور غير "السياسية" لم يؤرّخ لها. أو نجد أن كتب التاريخ موجودة في المكتبات ولا تتم معالجتها والتعامل معها بطريقة نقدية. ولو أخذنا مثلًا تاريخ الحِرف اليدوية أو الموسيقى المختلفة والموجودة في العالم العربي، سنجد أنها شبه منسية ومهددة بالاندثار مع موت من يتقنونها. في فيلمي الثاني من المعرض، أي "كاباريه الحروب الصليبية: الطريق إلى القاهرة"، نجد أن فيه موسيقى "فجيري" البحرينية، وهي موسيقى موجودة في دول خليجية عدة ولكن لا يوجد اهتمام بها. وهي موسيقى معقدة وجميلة في رأيي، لكن أحيانًا ينظر إليها بصورة استشراقية، كـ"استشراق ذاتي"، وتوضع تحت مسمّيات "التراث" وتعرض بشكل فيه خفة للسياح. قمت باستخدامها بسبب نشأتها وما ترمز إليه، كولادتها في بيئة ساحلية وخشونتها والبيئة الذكورية التي خرجت منها".
وجدير بالذكر أن شوقي أسس عام 2010 مشروع "ماس" في الإسكندرية، وهو معهد فنّي يدرس فيه 24 طالباً، ويعملون على مشاريعهم لمدة سنة. الأمر الذي يدلّ على اهتمام شوقي بالجيل الجديد، إلا أن الفنّان كان له رأي أوفى، فقد قال: "من خلال دراستي وتنقلي في مصر وخارجها وزيارتي لعدة دول ومعيشتي فيها، بدأت أؤمن أن التعليم والعمل الفني لا يعتمدان على الموهبة وإتقان الحرفة فحسب، بل إن معرفة الثقافات الأخرى والبعد الأكاديمي والمقدرة على التحليل والمعرفة لها أهمية كبرى. ما نقوم به في المعهد هو أن المدرسين يأتون من خلفيات مختلفة فنية وتاريخية ومواضيع أخرى ومن دول عديدة. ويتغيّر المحاضرون خلال السنة، لكن الطلاب ثابتون. نحاول خلال المشروع أن نسفّرهم خارج مصر، ولكن هذا ليس سهلًا، خاصة أن الإمكانيات المادية محدودة جداً. ولكن نحاول أن يحضروا بينالي في دولة ما كألمانيا أو اليونان أو دول أخرى ويشاركوا في مساعدة الفنانين في تلك المعارض على تركيب وبناء أعمالهم، وبذا تكون الاستفادة متبادلة.
المساهمون