على مدار ست سنوات، قدم مسرح "مترو المدينة" في بيروت أكثر من 400 عرض لمسرحية "هشك بشك" الغنائية التي تنقل أجواء الكباريهات في مصر بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي. لم يكتب سابقاً لأي عرض بيروتي أن استمر كل هذه المدة، أقله خلال العقود الماضية، مع العلم أن "هشك بشك" مرشح للاستمرار لسنوات في المستقبل، وليس هناك أي إشارة لتوقفه قريباً. ما الأسباب الكامنة وراء هذا النجاح؟ وكيف استطاع "مترو المدينة" تحقيق ما عجزت عنه أمكنة أخرى في بيروت؟
العرض
يمتلك العرض جميع عناصر الجاذبية. فالأحداث تجري داخل "كباريه" متخيل، تتألف عناصره من "معلّمة" تعتبر السلطة الأعلى فيه، ونادلة جميلة تتفاعل مع الزبائن، و"بارتندر" أو ساقٍ يتولى المشروبات الكحولية والمخدرات، بالإضافة إلى فرقة "حسب الله" المؤلّفة من جنود مصريين متقاعدين، أحدهم مقعد.
يمكن تقسيم المسرحية لثلاثة أقسام: الأول يركز على أغاني النصف الأول من القرن العشرين التي يمتلك بعضها طابعاً خلاعياً، والثاني على أغاني الأفلام المصرية في الستينيات، أما الثالث فعلى الغناء الشعبي والفولكلوري الأحدث زمنياً (تقدم الراقصة رندا مخول جولات عدة خلال الأقسام الثلاثة). تنتهي المسرحية بمقطوعة صوفية الطابع يصاحبها رقص مولوي.
العمل مكتمل العناصر الفنية والتقنية، والمشاركون يحافظون خلاله على أداء عالٍ وممتع. في كل دقيقة يحدث شيء مختلف، وفي كل زاوية من المسرح يقوم أحدهم بفعل استعراضي. كل واحد من الفنانين المشاركين يمتلك تجربته الغنائية والموسيقية التي يضعها في العرض. أما مخرجه هشام جابر فكان قد قدم عدداً من المسرحيات الغنائية قبل "هشك بشك"، اختبر فيها ما يريده الجمهور وأي تركيبة يمكن أن تكون الأنسب لـ"مترو المدينة"، قبل أن يصل إلى الصيغة النهائية التي شكّلت موديلاً أو نموذجاً فريداً اتبعه لاحقاً في عرض "بار فاروق"، الذي يعتبر النسخة اللبنانية من "هشك بشك".
المكان
تدور أحداث "هشك بشك" في كباريه حقيقي، لا في مكان يدعي هذه الهوية. يتطابق "مترو المدينة" من الداخل مع أي كباريه آخر، من ناحية التقسيمات، والديكور، والإضاءة، والصالة الحميمية الصغيرة التي يتواصل فيها الجمهور مع الفنانين بشكل مباشر. هذه العناصر جميعها شكلت فضاءً مسرحياً يتخطى الخشبة، ويجعل الجمهور جزءاً من العمل وشخصية تضاف إلى الشخصيات الأخرى (ربما من أسباب التلقي السلبي من الصحافة المصرية للعرض عندما قدّم في القاهرة أنه أتى في مكان مخصص لـ"الفن الراقي" هو دار الأوبرا، الذي لا يتلاءم حكماً مع هوية العرض الأصلية).
يعتبر "مترو المدينة" اليوم "كباريه ذي سمات ثقافية"، وهي هوية فريدة في المجال الترفيهي الشرقي. ما كان شائعاً قبله في بيروت، كان إما لبنانياً وفولكلورياً أكثر من اللازم، أو من دون هوية فعلية، يرتكز حصراً على المشهدية الباذخة والفخمة. طبعاً حاولت بعض الأمكنة استنساخ عناصر موجودة في المكان، إلا أن أكثريتها بدت مسرفة في "عصريتها" ومفتقدة الأصالة التي يتسم بها "مترو" من الداخل.
الجمهور
يقول هشام جابر لـ"العربي الجديد"، إنه خلال الفترة الأولى من العرض، كان الشباب يشكلون النسبة الأكبر من الجمهور. لاحقاً بدأ هؤلاء بإخبار أهلهم عن العرض، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الأعمار حتى وصلنا إلى مرحلة صارت فيها النسبة الأكبر من الجمهور فوق 35 عاماً. من العوامل الأساسية التي سمحت باستمرار العرض أنه تمكن من جذب هذه الفئة العمرية التي تعتبر مهمشة في الوسط الترفيهي المديني، وليس هناك من عروض مخصصة لها كما الحال مع الفئات الأصغر التي تأخذ الحيّز الأكبر من الحياة الليلية اليوم.
لا يشاهد هؤلاء العرض مرة واحدة. وهناك أشخاص شاهدوه عشرات المرات. فمن إيجابيات "هشك بشك" أنك لا تشعر بالملل عند مشاهدته مجدداً، ويعود ذلك لأسباب عدة، منها وجود أغان غير معروفة، سيحتاج الجمهور وقتاً لفهم معانيها. كثرة التفاصيل الموجودة في المشاهد التي لا يمكن ملاحظتها مرة واحدة، بالإضافة للطابع الصوفي المصاحب للجزء الأخير من العرض، الذي يعتمد على الإعادة والتكرار، ما يترك ذكرى مصحوبة بالنشوة والسحر عند الجمهور (تتجلى ذروتها عند حصول معجزة وقوف الموسيقي المقعد وتمكنه من المشي)، تدفعه للعودة مجدداً لمشاهدة العرض.
الأغاني
اختار الأغاني بالإضافة إلى المخرج هشام جابر، الموزع الموسيقي زياد الأحمدية والمغنية ياسمينا فايد، والثلاثة يتمتعون بثقافة فنية عالية في الموسيقى الشرقية. علماً أنّ لدى "مترو المدينة" موارد ثقافية لا يمكن مقارنتها بأغلبية الأمكنة الترفيهية الأخرى في المدينة (المخصصة للغناء الشرقي)، لذلك من الصعب رؤية عروضٍ بالمستوى التقني أو الفني نفسه في بيروت يمكنها أن تنافس "هشك بشك" أو تحل مكانه.
يركز العرض في جزء منه على أغاني الأفلام المصرية التي تأخذ حيّزاً كبيراً من الذاكرة الشعبية للفئات العمرية التي يتوجه إليها العرض. ورغم أن هذه الأغاني معروفة له جيداً، إلا أنه لا يسمعهاً كثيراً في الأندية الليلية في بيروت (قلي ولا تخبيش يا زين، ما اشربش الشاي، سونا يا سنسن، مصطفى يا مصطفى). أما في الجزء الآخر منه، فيركز العرض على أغان من النصف الأول من القرن العشرين، أغلبها مختف عملياً وقد أعاد هشام جابر إحياءها بسبب ملاءمتها مع فكرة "الكباريه".
طبعاً لا نتحدث عن أغان خفيفة كما يدل اسمها للوهلة الأولى (طقاطيق)، بل عن أعمال ذات مستوى عال جدّا تعرضت للتهميش والإخفاء بسبب تناولها مواضيع محرّمة اجتماعياً، مثل أغنية "الكوكايين" لسيد درويش، و"يا خارجة من باب الحمام" التي غنّتها تحية كاريوكا، أو "اقرأ يا شيخ قفاعة" لسيد درويش أيضاً. إذ تحمل هذه الأعمال مزايا الإنتاجات العظيمة الأخرى التي قدمها هؤلاء الفنانون، رغم عدم حصولها على الانتشار الواسع. وهو تحديداً ما يكتشفه جمهور "هشك بشك".