التقيته أول مرة في بدايات العقد الماضي في معتقل الخيام، بجنوب لبنان. كانوا فنانين كثيرين من أغلب البلدان العربية يحتفون بتحرير جنوب لبنان، ومعه بجهةٍ سياسية كانت تزعم لنفسها الفضل في ذلك؛ وكان هو من القلائل الذين جاؤوا يحتفون بالإبداع والأرض والأفق الرحب للكينونة. اختار هيمت محمد علي، الفنان الكردي الصموت، بابتسامته الحزينة التي لا تفارق شفتيه، أن يرتكن بنفسه في إحدى زنازين المعتقل الضيقة، على الربوة المطلة على الحدود ونهر الوزاني، محاطا بأطياف المعتقلين الذين مروا من هناك، وبخربشاتهم وكتاباتهم على الجدران الكالحة... هناك رسم لوحته الكبرى بألوان مالت إلى القتامة والحمرة وبتشجيرات كادت تخرج من اللوحة لتعانق رحابة الجنوب...
يدين هيمت لشاكر حسن بحب واحترام يتجاوزان كل الحدود. فلقد وجد فيه ضالته "السلالية" والتاريخية والفنية وجعل منه رمزا شخصيا وفنيا عاما. بيد أن المفارقة التي يفصح عنها هذا العشق والتتلمُذ هو أن هيمت هو أكثر الفنانين الشباب من مريدي الشيخ شاكر حسن ابتعادا عن طرائقه في تصور العمل الفني وممارسته. هذه المفارقة هامة جدا لأنها تفسر تقريبا كل شيء في مسير الفنان. فإذا نحن ألقينا نظرة على بعض تلامذة شاكر حسن فسنرى تعلّقهم بمفهوم المساحة ثم في ما بعد بتصور اللوحة كموطن لتفاعلات هجينة.
قبل سنوات نظّم هيمت معرضا لأستاذه شاكر حسن ودعاني للكتابة للمعرض. وقمت طبعا ببحث متعمّق جعلني أدرك أفضل هذه العلاقة البرانية التي تقوم بين فنانين لهما تصوران متمايزان. فالأول منهما متصوّف ويعشق التجريب ويحتفي باللامرئي والمحجوب، فيما الثاني يحب العلامات غير الدالة بذاتها، ويعشق التشخيص الشذري ويتّصف بحسيّة أرضية لا مكان كبيرا فيها للهموم الميتافيزيقية بالرغم من احتفائها على طريقتها باللامرئي ومعطياته الأثيرية.
يحوّل هيمت الطبيعة والأشجار والمناظر الخارجية إلى علامات، تتشذّر أو تتخذ طابعا تنقيطيا كما لو كان يقتلعها من عيانيتها ليضفي عليها طابعا زخْرفيا. يبنيها ثم يفككها وفْقا لحركية تمزج بين المساحات اللونية والمفردات الرمزية. إننا نعني هنا بالزخرفي لا الجانب التحسيني البلاغي والبديعي الذي يأتي ليجمّل اللوحة. فهيمت ليس من الفنانين الذي يبحثون عن التناسق من خلال عمليات تجميلية تُضفى على ما يقوم بتشكيله. بل الأحرى بنا أن نقول إن التناسق لديه مبدأ قبلي سابق على الإنجاز، ينبع من اللحظة التي تنبثق فيها البنية اللونية والشكلية كي تمنحنا "منظرا" طبيعيا يرى بالحس لا بالعين. هكذا تغدو كل المعطيات البصرية لديه متشابكة ومتعالقة كما لو أنها تبني بشكل صبور ومتأنٍّ صرح المعنى.
في سلسلة لوحاته التي سماها "منظر طبيعي"، يغدو اللون وانتقالاته المحرك الأساس للعبة التأويلية التي يمارسها. وهكذا فالمرور من لون منظري "طبيعي" لآخر يمنحنا هذا الإيقاع الموسيقي الذي يجعل التنويعات تشكل سلسلة موضوعاتية، وفي الآن نفسه تكون كل لوحة مساءلة لأثير معنى من المعاني التي تستكنهها التجربة بكاملها. من ثمّ فإن العناصر "الزخرفية" تغدو بشكل ما بناءً للمعنى، والمناظر الطبيعية تغدو مجازا لمرئي يتم تأويله كي يغدو ضربا من الزخرفة الوجودية. والحقيقة أني وأنا أنظر لتلك الأعمال، التي رأيت بعضها في مرسمه الصغير بشمال باريس، نكاد نخالها بساطا وسجّادا بصريا تتحول فيه الأشكال الهندسية الطفولية
إلى لغة مهموسة، كما إلى أسئلة متناسلة عن الوجود والترحال والهوية الضائعة في ثنايا الحدود، وعن الغيرية والصمت والشعر واللغة والمعنى...
فمقدار ما يختلف عمل هيمت عن تراث أستاذه شاكر حسن، مقدار ما ثمة حوار تآلفي وتنافري بين أعماله في طابعها المتشابك وبين طبيعة مبدعها... أعني بذلك أن تجربة الفنان، في الهجرة والترحال، وبحثه المستمر عن هويته الشخصية والفنية، واستماتته في البحث عن موقع مميّز له في خارطة أبناء جيله، وجروحه الرمزية المتنوعة، كل هذا جعل طويته تغتني بالتناقضات والمفارقات كما بالزخم الإبداعي وغنى المتخيّل...
عاش الفنان مدنا كثيرة وهجرها، باليابان والعالم العربي وغيرهما. ولم تمنحه باريس ما كان ينتظره منها، وكأنها تمنَّعت عليه لأنه فنان لا علاقة له بالأضواء وبصناعة صورة المبدع. لكن غنائية الفنان وعشقه للشعر جعله يبني لنفسه عوالم علاقية حاور من خلالها شلّة مميّزة ولامعة من الشعراء. لقد كانت غنائيته الشعرية تتبدّى في عوالمه الداخلية في اللوحة بحيث كان الانفتاح الحواري مع الشعر أشبه بالامتداد، أو مراودة للغة أخرى لا يتقنها الفنان إلا في لغة الأشكال والألوان. كان الحوار مع أدونيس مثمرا، لأن كثافة اللوحة كانت مرآة مُسائلة لكثافة القصيدة لديه. ثم كانت حواريته مع الشاعر الياباني الراحل غوتارو جينازومي، صديقه وملهمه، تجربة جعلت الزهور تتحوّل إلى علامات سماوية تائهة، تشكل إيقاعية متناغمة ومنتظمة قلما نجدها كذلك في أعمال الفنان. وكانت تجربته مع الروائي والشاعر ميشيل بوتور والشاعر الفرنسي برنار نويل، كما مع الشاعر المغربي محمد بنيس والشاعر البحريني قاسم حداد، والشاعر العراقي سعدي يوسف، بحيث صار هيمت يبدو كما لو أنه خلق مجرَّته الحوارية الشعرية التشكيلية في البرزخ الفاصل والواصل بين الملفوظ والمكتوب والمرسوم.
في الشعر يجد التشكيل صوتا مضافا، خارج أي علاقة مرآوية. فهيمت يفسح مجال فضائه التشكيلي الحميم للشعر والخط اليدوي والكلمات والتعابير كي تنضاف إلى علاماته ورموزه. والحقيقة أن هذا الإيقاع المزدوج يحرر اللوحة من أحاديتها ويمنحها هبةً للآخر؛ وكأن الفنان بذلك لا يرغب في الاكتفاء بذاته، أو كأن اللوحة لا توجد إلا بذلك النقص الأبدي الذي يعتريها، والذي يجعلها بالضرورة انفتاحا وإمكانا. اللوحة في هذه العملية تترجم علاقة هيمت بالعالم من حيث هي علاقة انفتاح وانغلاق، جاذبية ومندفعة وانطواء صامت... إنها تشبه السفينة التي تشرع للريح أشرعتها كي تمخر عباب مجهول المعنى. هذا المعنى يغدو هجينا، تتكلم فيه القصيدة بلسان التشكيل ويتكلم التشكيل بلسان لم يكن له من قبل...
بهذا المعنى ليس ثمة من توازٍ بين القصيدة والتشكيل، ولا من تصوير تشكيلي للتعبير الشعري. اللوحة تنبني كتأويل وإضافة للقصيدة والعكس بالعكس.
يدين هيمت لشاكر حسن بحب واحترام يتجاوزان كل الحدود. فلقد وجد فيه ضالته "السلالية" والتاريخية والفنية وجعل منه رمزا شخصيا وفنيا عاما. بيد أن المفارقة التي يفصح عنها هذا العشق والتتلمُذ هو أن هيمت هو أكثر الفنانين الشباب من مريدي الشيخ شاكر حسن ابتعادا عن طرائقه في تصور العمل الفني وممارسته. هذه المفارقة هامة جدا لأنها تفسر تقريبا كل شيء في مسير الفنان. فإذا نحن ألقينا نظرة على بعض تلامذة شاكر حسن فسنرى تعلّقهم بمفهوم المساحة ثم في ما بعد بتصور اللوحة كموطن لتفاعلات هجينة.
قبل سنوات نظّم هيمت معرضا لأستاذه شاكر حسن ودعاني للكتابة للمعرض. وقمت طبعا ببحث متعمّق جعلني أدرك أفضل هذه العلاقة البرانية التي تقوم بين فنانين لهما تصوران متمايزان. فالأول منهما متصوّف ويعشق التجريب ويحتفي باللامرئي والمحجوب، فيما الثاني يحب العلامات غير الدالة بذاتها، ويعشق التشخيص الشذري ويتّصف بحسيّة أرضية لا مكان كبيرا فيها للهموم الميتافيزيقية بالرغم من احتفائها على طريقتها باللامرئي ومعطياته الأثيرية.
يحوّل هيمت الطبيعة والأشجار والمناظر الخارجية إلى علامات، تتشذّر أو تتخذ طابعا تنقيطيا كما لو كان يقتلعها من عيانيتها ليضفي عليها طابعا زخْرفيا. يبنيها ثم يفككها وفْقا لحركية تمزج بين المساحات اللونية والمفردات الرمزية. إننا نعني هنا بالزخرفي لا الجانب التحسيني البلاغي والبديعي الذي يأتي ليجمّل اللوحة. فهيمت ليس من الفنانين الذي يبحثون عن التناسق من خلال عمليات تجميلية تُضفى على ما يقوم بتشكيله. بل الأحرى بنا أن نقول إن التناسق لديه مبدأ قبلي سابق على الإنجاز، ينبع من اللحظة التي تنبثق فيها البنية اللونية والشكلية كي تمنحنا "منظرا" طبيعيا يرى بالحس لا بالعين. هكذا تغدو كل المعطيات البصرية لديه متشابكة ومتعالقة كما لو أنها تبني بشكل صبور ومتأنٍّ صرح المعنى.
في سلسلة لوحاته التي سماها "منظر طبيعي"، يغدو اللون وانتقالاته المحرك الأساس للعبة التأويلية التي يمارسها. وهكذا فالمرور من لون منظري "طبيعي" لآخر يمنحنا هذا الإيقاع الموسيقي الذي يجعل التنويعات تشكل سلسلة موضوعاتية، وفي الآن نفسه تكون كل لوحة مساءلة لأثير معنى من المعاني التي تستكنهها التجربة بكاملها. من ثمّ فإن العناصر "الزخرفية" تغدو بشكل ما بناءً للمعنى، والمناظر الطبيعية تغدو مجازا لمرئي يتم تأويله كي يغدو ضربا من الزخرفة الوجودية. والحقيقة أني وأنا أنظر لتلك الأعمال، التي رأيت بعضها في مرسمه الصغير بشمال باريس، نكاد نخالها بساطا وسجّادا بصريا تتحول فيه الأشكال الهندسية الطفولية
فمقدار ما يختلف عمل هيمت عن تراث أستاذه شاكر حسن، مقدار ما ثمة حوار تآلفي وتنافري بين أعماله في طابعها المتشابك وبين طبيعة مبدعها... أعني بذلك أن تجربة الفنان، في الهجرة والترحال، وبحثه المستمر عن هويته الشخصية والفنية، واستماتته في البحث عن موقع مميّز له في خارطة أبناء جيله، وجروحه الرمزية المتنوعة، كل هذا جعل طويته تغتني بالتناقضات والمفارقات كما بالزخم الإبداعي وغنى المتخيّل...
عاش الفنان مدنا كثيرة وهجرها، باليابان والعالم العربي وغيرهما. ولم تمنحه باريس ما كان ينتظره منها، وكأنها تمنَّعت عليه لأنه فنان لا علاقة له بالأضواء وبصناعة صورة المبدع. لكن غنائية الفنان وعشقه للشعر جعله يبني لنفسه عوالم علاقية حاور من خلالها شلّة مميّزة ولامعة من الشعراء. لقد كانت غنائيته الشعرية تتبدّى في عوالمه الداخلية في اللوحة بحيث كان الانفتاح الحواري مع الشعر أشبه بالامتداد، أو مراودة للغة أخرى لا يتقنها الفنان إلا في لغة الأشكال والألوان. كان الحوار مع أدونيس مثمرا، لأن كثافة اللوحة كانت مرآة مُسائلة لكثافة القصيدة لديه. ثم كانت حواريته مع الشاعر الياباني الراحل غوتارو جينازومي، صديقه وملهمه، تجربة جعلت الزهور تتحوّل إلى علامات سماوية تائهة، تشكل إيقاعية متناغمة ومنتظمة قلما نجدها كذلك في أعمال الفنان. وكانت تجربته مع الروائي والشاعر ميشيل بوتور والشاعر الفرنسي برنار نويل، كما مع الشاعر المغربي محمد بنيس والشاعر البحريني قاسم حداد، والشاعر العراقي سعدي يوسف، بحيث صار هيمت يبدو كما لو أنه خلق مجرَّته الحوارية الشعرية التشكيلية في البرزخ الفاصل والواصل بين الملفوظ والمكتوب والمرسوم.
في الشعر يجد التشكيل صوتا مضافا، خارج أي علاقة مرآوية. فهيمت يفسح مجال فضائه التشكيلي الحميم للشعر والخط اليدوي والكلمات والتعابير كي تنضاف إلى علاماته ورموزه. والحقيقة أن هذا الإيقاع المزدوج يحرر اللوحة من أحاديتها ويمنحها هبةً للآخر؛ وكأن الفنان بذلك لا يرغب في الاكتفاء بذاته، أو كأن اللوحة لا توجد إلا بذلك النقص الأبدي الذي يعتريها، والذي يجعلها بالضرورة انفتاحا وإمكانا. اللوحة في هذه العملية تترجم علاقة هيمت بالعالم من حيث هي علاقة انفتاح وانغلاق، جاذبية ومندفعة وانطواء صامت... إنها تشبه السفينة التي تشرع للريح أشرعتها كي تمخر عباب مجهول المعنى. هذا المعنى يغدو هجينا، تتكلم فيه القصيدة بلسان التشكيل ويتكلم التشكيل بلسان لم يكن له من قبل...
بهذا المعنى ليس ثمة من توازٍ بين القصيدة والتشكيل، ولا من تصوير تشكيلي للتعبير الشعري. اللوحة تنبني كتأويل وإضافة للقصيدة والعكس بالعكس.