لعل أحداً من صحافيّي البلاد العربية لم يحظ بالشهرة التي حظي بها محمد حسنين هيكل الذي رحل عن عالمنا أمس. شهرة التبست بصور عدة؛ منها التي تبرزه في أعالي السلطة ومنها التي ترتبط بالسقوط. هي في النهاية مسيرة صحافية تحكمها مغامرة تتأرجح بين التفاصيل الصغيرة والسياقات الكبرى.
"بين الصحافة والسياسة"، عنوان لأحد مؤلفات هيكل، ولعله يستقيم عنواناً لمجمل سيرته. في العمل نفسه، كتب "لم أكن مجرّد مشاهد وإنما كنت شاهداً"، قال ذلك في الثمانينيات مذكراً الجميع بمكانته حين "أصبح الكذب الصناعة الثقيلة الوحيدة في عصر الانفتاح الاستهلاكي". لقد أحب الرجل الوقوف في ذلك التقاطع بين السلطتين، فعل ذلك في كل المراحل التي عاشها وأرّخ لها، وإن لم يفعل ذلك ساهم في توجيه الرأي العام بحضور تلفزيوني.
طالما روى هيكل أن الصحافة كانت مشروع حياة ارتسم مبكراً في ذهنه. في أولى لحظات اكتشافها، وجد نفسه تحت التمرين في جريدة الـ"إجيبشن غازيت"، فإذا سلّمنا بأن الصحافة لم تتأصّل عربياً مقارنة بمهودها الغربية، فالحال مع هيكل أنه ورث تقاليدها مباشرة عن الإنجليز.
بقفزات رشيقة، انتقل الصحافي الشاب من "صفحة الحوادث" إلى تغطية الحياة البرلمانية زمن الملك فاروق. لا يتطلب الأمر سوى قرار بسيط من رئيس تحرير، غير أنها نقلات تفضي إلى آفاق غير متوقعة، هذا قبل أن تأتي القفزة الثالثة حين يغطي معارك الحرب العالمية الثانية في مصر.
هكذا حصّل هيكل تدريباً سريعاً على ما تقتضيه المهام الكبيرة في عالم الصحافة. بنهاية الحرب، سرعان ما سيدلف إلى أجواء الصحافة المصرية الوطنية، بداية بـ"أخبار اليوم" مع محمد التابعي، ليندمج في عوالم الغرف التي تتقرر فيها ميولات الناس وأفكارهم. مشوار الصحافة لدى هيكل تجاوز مبكراً عتبة الكتابة، ليتحوّل إلى مخططات ومشاريع.
في "أخبار اليوم" (1945 - 1950)، انفتح هيكل على أفق جديد، إذ سيراسل الجريدة من بقاع عدة من العالم، ساخنة وباردة، يلتقي بالزعماء ويحلل ما وراء الأحداث، دربة ستضيف طبقة جيوسياسية إلى مؤهلات الصحافي الشاب.
1952، "الضباط الأحرار" يقلبون النظام الملكي، أحدهم أخذ يكدّس صلاحيات السلطة بين يديه، ولم يكن بعيداً عن متابعة هيكل. "الثورة" الشابة تحتاج إلى شباب أنقياء من الولاءات القديمة، لم تكن الخيارات كثيرة، سرعان ما ستسلّط الأضواء على هيكل ليمنح الفرص تلو الأخرى في المجال الذي هو به عليم؛ إنه من الآن أحد "حرّاس البوابة" (بالمعنى الإعلامي).
يومياً، أو يكاد، كان بالقرب من جمال عبد الناصر. هو الآن ينتقل من غرف صناعة القرار الإعلامي إلى غرف صناعة القرار السياسي. مُنحت له إدارة أكبر الصحف؛ "الأهرام" و"الجمهورية"، فضّل الأولى ليصنع منها مشروعاً ضمن مشروعه الشخصي: مؤسسة إعلامية بالحجم الذي رآه في أميركا وبريطانيا واليابان، واضعاً للمؤسسة بنية تحتية من مراكز أبحاث ومطابع وشبكة توزيع جعلتها من أهم صحف الشرق، كان يعرف أنه بدون هذه البنية لا يمكن تحقيق حلم "الصناعة الثقيلة للرأي".
لعلها أيضاً اللحظة التي وعى فيها هيكل بوضوح موقعه في رقعة الشطرنج المصرية، إنه قطعة تتميّز بقدرة على الحركة وتمسك بمصير كثيرين بحكم خصوصيات موقعها. كل ذلك في لحظة وعت فيها مصر، هي الأخرى كدولة وكجغرافيا، لدورها في لعبة الشطرنج العالمية.
كان ذلك مستوى جديداً من الدربة، غير أن منحنى الصعود لن يستمر إلى الأبد، فرحيل عبد الناصر أضعف هيكل الذي من جهته جرّب التصعيد في انتقاد السياسات الجديدة للسادات. كانت السبعينيات، بالتالي، سنوات التجميد، توقف الصعود المتواصل، وضرب موقعه الاستشاري، وصولاً إلى إخراجه من اللعبة السياسية داخل النظام، ثم اعتقاله في 1981 الذي لم تنهه إلا نهاية عصر السادات.
هذه التجارب أدخلت هيكل في تكتيكات جديدة، ليبدأ في الاشتغال على أبعاد جديدة؛ إنه الشاهد الذي يصوغ مقولة التاريخ القريب، والذي لا يتورّع عن تصفية حساباته بلا رحمة، حاملاً أسلحة الوثائق التي تكدّست عنده لمثل هذا اليوم. اقتضى ذلك انتقالاً في محامل الكتابة، لم تعد المقالة تستوعب هذا المشروع، فانبرى يضع الكتاب تلو الآخر، شاهداً ومحللاً وواضعاً نظرياته في التاريخ المعاصر، وكأنه قرر الانتقال بوعي إلى مرتبة المؤرخ.
مزج هيكل بين صنعة الكتابة وتقديم رؤية في الأحداث. من يمر على كتاباته سيقف على أن مؤلف "العروش والجيوش" و"خريف الغضب" و"زيارة جديدة للتاريخ" كان يعرف الطبقة التي يطرب لها القارئ العربي، مستعملاً عناوين خفيفة وقوية، وصياغات رشيقة، وشيئاً من مخاطبة العواطف. أدوات تسرّبت من خلالها مقولاته وأفكاره في الجماهير، بغض النظر عن مصداقيتها وإلى ما تفضي إليه.
في مجمل مسيرته، عرف هيكل كيف يقف في الخطوط الكبرى للتأثير في الناس، جريدة "الأهرام" - كتابة وإدارة - في زمن الصحف، وقناة "الجزيرة" بالحديث عن الماضي وتحليل الأحداث الراهنة في عصر الصورة. كلها عناصر تفسر تلك الهالة الأسطورية التي تحيط بالرجل في أذهان الكثيرين. صورة فيها الكثير من الاعتبارية، نظراً للتجربة والثقافة، لكنها تتضمن أيضاً التسليم للبطريركية.
اقرأ أيضاً: أم كلثوم.. حنجرة الزمان العربي