هنا أيضاً طائر النهم الكبير، يرتدي قدراً على رأسه، ألوانه هي ألوان المواقد الشائعة في ذلك الوقت، كل ساق محشورة في جرّة نبيذ. ها هو يأكل إنساناً وهو جالس على مقعد أسفله حفرة، يتبرّز فيها مَن التهمهم للتو. ثمّة متهافتون على الحفرة يرمون قطعاً نقدية فيها، ينفقون على الخراء. هناك من يتقيّأ أيضاً؛ كل شيء مصيره فضلات. ثمة قنديل أصبح فرناً، وقلب تحوّل إلى آلة للتعذيب. وهذه؟ كأنها مركبة من أذنين قبيحتين يسكنها جرذ وتتخلّلها سكين، وتهرسان بشراً تحتها.
لا غرابة أن اعتقد الناس أن الرجل إما أنه مُلهم أو مُتوهّم ساحر أو عارف بعلوم الفضاء، أو أنه يتعاطى أعشاب الهلوسة ليتراءى له ما يُريه للناس. لكن تلك الدقة وهذا الصواب في توزيع كائناته على المساحة، تستبعد أن نكون أمام فنان يعيش حالة هذيانية أو بديلة للوعي. لم يكن اختراقه ممكناً، ولا الحديث إليه سهلاً، ملامحه أقرب إلى القبح، أنفه معوجّ وعيناه توشكان على الهروب من وجهه، بشرته مجعّدة كأنها شمعٌ ذائب. لكن، ولكي يرسم هكذا، فلا بدّ أنه كان حُرّاً، حرية المؤمنين الأثرياء المقرّبين من الكنيسة والأرستقراطية في آن.
ليس هناك صورة بورتريه أخرى لبوس (أو بوش بحسب لفظه في لغات أخرى)، الوحيدة المتوفرة له رُسمت بعد موته بعشرة أعوام. بعد عشرين عاماً أخرى من وفاته سيقوم الهولندي بيتر برويغل بالاتفاق مع فنان حفرٍ آخر ودار نشر تدعى "Four Winds"، برسم مخلوقات بوس الفنتازية، ثم نسخها بتقنية الحفر بأعداد كبيرة تباع في المتاجر، لهذا أصبح برويغل، في أوساط النخبة، يلقّب بـ "بيتر المهرّج". بعد عقود أخرى، سيصبح اسم بوس شتيمة رديفة لـ كافر أو مهرطق أو منافق، ويقال إنك كنت ستسمع شعراء يتنابذون فيصف أحدهم الآخر بأنه بوسيويّ بدلاً من زنديق، ولم يستعد اسمه مكانته حتى مطلع القرن العشرين، بعد أن ظهرت كراماته على السورياليين.
لكن الباحث البريطاني في تاريخ الفن، نيكولاس بوم، يؤكّد أنه عثر على صور أخرى لبوس في شخصيات أعماله، يقول إنك لن تخطئ عقفة أنفه أبداً. رسم بوس نفسه في وجه "الرجل الشجرة" و"عابر السبيل" ومخلوقات غرائبية أخرى موزّعة هنا وهناك. خمسة قرون مرّت على لغز مخيلته وحياته، ستجد ناقداً مثل إروين بونوفسكي يقول في كتابه "لوحات هولندية مبكرة" (1953) إن "السر الحقيقي خلف كوابيسه المدهشة وأحلام يقظته لم يكتشف بعد".
لم يضع بوس تاريخاً على أي من لوحاته، وقد تمّ "تسنينها" كما يقدّر عمر شجرة، فقد كان يرسم على ألواح من خشب البلوط والسنديان البلطيقي فقط. لم يسمّ أي منها، كلّها سُميت بعد وفاته؛ هذه "حديقة المسرّات الدنيوية"، وهذه "يوم القيامة"، وتلك "عربة القش" وأخرى "إغواء القديس أنطونيوس" و"الخطايا السبعة والأربعة أشياء الأخيرة" و"الموت والبخيل" و"مجاز الشبق والنهم" و"الموت والخاطئ". نجا من أعماله التي تقارب الثلاثين، 16 عملاً ثلاثي الألواح "تربتيك"، ثمانية منها بحالة جيدة، وخمسة منها تفرّقت ألواحها، وثلاثة مفقودة لكنّك إن بحثت فستجد كتابات عنها.
كانت ألواح الـ "تربتيك" ترسم من الداخل والخارج، لتعرض على المذبح في الكنيسة، وعادة ما يتم إغلاق جناحيها فتصبح مثل نافذة موصدة تحت الصليب، رسوماتها الخارجية ذات ألوان خفيفة من الأبيض والرمادي والوردي. أحياناً كانت توضع ستائر على مداخل الضوء في بهو الكنيسة، قبل عيد الفصح، لكي تفتح فجأة قبل القدّاس وتفرد اللوحة جناحيها وتتطاير الألوان الحيّة، وتصبح أمام عرض سينوغرافي مدهش. الأضواء تتلاعب، شخصيات الحكايات الدينية تخرج من الألواح الثلاثة لتواسي المؤمنين والباحثين عن الخلاص. في ذلك العصر المتشائم الكئيب، الذي نظن نحن سكان الألفية الثالثة أنه الأسوأ، وأن الناس كانوا أقرب إلى الموت آنذاك منّا اليوم، كانت الأجساد تنفق بأعداد غفيرة من الجوع والبرد والفقر والطاعون، أو كانت تُحرق لأن أصحابها تحوّلوا إلى البروتستانتية، كان الإيمان بمثابة اسم آخر للنجاة؛ هذا هو عصر بوس.
ثمة أيضاً العصر الصغير والمجهول للفنان الذي لم يترك أي يوميات أو انطباعات مكتوبة، ولم يبق من حياته الخاصة سوى وثيقة زواجه، ومحضر مشاجرة مع أقارب زوجته، ووثيقة تسجيله في "أخوية سيدتنا المباركة"، التي لم يكن ليدخلها لولا ثراء زوجته وانتقاله إلى طبقة أرفع من عائلته، كما أن هناك إعلاناً عن جنّاز أقامته الأخوية يوم وفاته. أمّا حادثة الحريق الذي شهده وهو ابن 12 عاماً، فيعتبر المؤرخون أنها تركت في مخيلته البصرية قطعة من الجحيم؛ التهمت النار بيوت البلدة فرأى السقوف تتهدّم والأشجار تتهاوى والناس هلعين بعضهم يحاول إطفاء نفسه، وبعضهم هارب من دون أن يلتفت.
سنعرف من الباحث البريطاني بوم، أن بوس كان يعثر على كثير من كائناته العجيبة أيضاً في الإنجيل ورؤى القديسين ومحنهم في النصوص المسيحية. لنعود إلى القدّيس يوحنا يصف ما رأى من مخلوقات تشبه الجراد ولكنها كالخيل أيضاً. على رؤوسها تيجان من الذهب. وجوهها وجوه رجال وشعرها شعر نساء. أسنانها أسنان الأسود. لها دروع كأنها من حديد. صوت أجنحتها كخيل تركض في معركة. لها ذيول تلسع كالعقارب ويمرض الإنسان من لسعتها خمسة أشهر. سنرى بوس في لوحة "يوحنا في بطمس"، وقد جسّد جرادة كهذه، ثم أعطاها وجهه.
زار بوم، الشغوف بأعمال بوس، بلدته في العصر الحديث، باحثاً عن طريقة أعمق للفهم، عن نقاط الصلة مع واقعيات الفنان المتخيّلة، سيخبرنا عن مرسم بوس وقد أصبح متجراً للملابس المستعملة، بينما ظلّ القبو المنسي على حاله، هناك كان الفنان يرتّب أدوات العمل، وحين ينتهي كان يخرج من درج القبو ليصل إلى ساحة السوق الشعبي، التي تقوم بدورها في نفس المكان إلى اليوم. من هنا كان يمر بوس كل يوم، حيث يتجمهر الريفيون والرعاة لبيع أبقارهم ودواجنهم، والفلاحات لعرض بضائعهن، فتختلط الحيوانات بالبشر وسط ضجيج المساومات على الأسعار، ولعب العاطلين عن العمل بالورق، والضحك وتناول الطعام، وتوافد المزيد من المُشترين والباعة والمارّة. مشهد صاخب استلهم منه بوس تفاصيل اللوحة المركزية في "حديقة المسرّات الدنيوية"، حيث البشر والحيوانات والطيور الضخمة، كلٌ يمارس لهواً ما، حتى في خيمة الكاردينال، سنفهم أن هناك عراة تحتها، أما العراة العاديون فمكشوفون في فقاعات شفافة، بينما هم منصرفون إلى جنسهم وشربهم.
قرّب العدسة أكثر لتكتشف أن كثيراً من شخصيات اللوحة تضع إصبعاً على الفم وتومئ بالسكوت، تريد الكتمان وتطلب السرية وسط فائض العري.
أخذ الفن إلى لحظة أخرى من تاريخه
بالغ نقّاد الفن ومؤرخوه في تقدير بوس، وفقاً للناقد البريطاني، بريان سويل، الذي يوضّح أن كل ما كُتب عن الفنان الهولندي وعمله وسيرته، كان كله تكهنات في تكهنات، لو قارنتها لوجدت أن الواحدة منها تنفي الأخرى أو تتناقض معها.
ومن دون أن يشكك سويل في فرادة مخيلة بوس، يبيّن أن تقنِيته لم تخلُ من عيوب أُخذت على فنانين آخرين في عصره وقلّلت من شأن أعمالهم، مثل طريقته في بناء شخصيات اللوحة وتعامله الركيك مع المنظور وطريقته في التشويه وغياب التضاريس، ثم يستطرد "حتى الأشجار لم تخرج من رأسه... لا وجود للطبيعة ولا لتفاصيل المكان الذي عاش فيه".
صحيح، لم تخرج الغابات الهولندية من رأس بوس، بدلاً منها خرجت كوابيسه ورُهابه من الجنس والطعام والنبيذ واللهو، وتذكيره، الأقرب إلى الوعظ، بالعقاب ومغبّة ضعف الإيمان، مفزعاً نفسه أولاً بأول، مسكوناً بأشباح دنيوية تطارده، ولا يملك وسيلة سوى الرسم لمقاومة إغوائها المروّع؛ فخرجت مخاوفه أمام عينيه في هيئة عفاريت وأقزام وكائنات خرافية بشعة.
الأمر أن بوس لم يتجاهل أين ومع من عاش، كما يزعم سويل، ولا أغفل التفاصيل اليومية التي كان ناقماً عليها في مجتمعه؛ سنراه متهكّماً على سذاجة الناس، يحتقر، بلا شفقة، جهلهم وأكاذيبهم. لنتأمّل لوحة "علاج الجنون" أو "سفينة الحمقى"، في الأولى سنرى جرّاحاً يرتدي قمعاً (طريقة بوس في السخرية) يفتح رأس المريض ليخرج حجر الجنون؛ ممارسة قديمة كان يُعتقد أنها تشفي من الغباء والجنون. في اللوحة الثانية، يقتبس فكرة كتاب "سفينة الحمقى" لسباسيتان برانت، لينتقد الكنيسة، فيرسم سفينة راسية في حقل، كل راكبيها من السكارى، بينهم راهبات وقساوسة.
غير أن الباحثة في تاريخ الفن في القرن السادس عشر، لين. إف جيكوب، ترى في دراسة مطوّلة عن بوس، أن عبقريته ليست في مضمون لوحاته وأسلوبها فقط، بل في قدرته على الاحتفاظ بتقاليد الرسم في الوقت الذي يجدّدها فيه، فأخذ بذلك الفن إلى لحظة أخرى من تاريخه. كان بوس أول من أدخل الثيمات الدنيوية على رسومات الألواح الثلاثية، ولم يكن على الفنان أن يعطي مركزية للرسومات على الجهة الخارجية منها، حتى قام بوس بتعقيد علاقة الألواح الثلاثة من الداخل والخارج، هادماً الهرمية المعتمدة في هذا النوع الفني وواضعاً رساميه أمام تحدٍّ جديد.
عبقريات مستقبلية من مثل بوس ومعاصره دافنشي، ثم لوكاس كرناش وآخرين، هي التي أبقت وتُبقي على الفن مفتوحاً من الجهة الأخرى، ولطالما أكدت أن الفنان يعاصر أدوات زمانه، دون أن يلزمه ذلك بأن يكون معاصراً له.
حفل موسيقي في بيضة
اشتغل بوس في زمان قاومت فيه الكنائس الهولندية محاولات العازفين التسلّل بآلاتهم الموسيقية إلى التراتيل والقداديس. سيرسم الموسيقيين في أعلى هرم العبث، على قمة "عربة القش" فوق جشع الملوك الأباطرة وفوق المحتالين والباحثين عن الثروة. وقد نراهم يعزفون في بيضة مع مخلوقات غريبة. لن ينسى أن يضيف البجعة التي ترمز إلى الغواية الجنسية، والبومة التي تظهر وصيّة حكيمة مسؤولة عن تنفيذ مخططات الشيطان.