لا يبدو أنّ هيرمان هسّه (1877 - 9 آب/ أغسطس 1962) قد برئ يوماً من العثور عليه في الحقول بعد هروبه من المدرسة الأنجليكية التي أُلحق بها وهو في سنيّ المراهقة، ومحاولته الانتحار. استعادته عائلته من فم الموت، ليبدأ في رحلة طويلة يتنقّل فيها بين المدارس والمعاهد والأديرة التي سيكرهها كلها، وستجعل من سنوات الصبا وعلاقته بأبويه جحيماً متواصلاً.
بدا هسّه بهذه المحاولة وكأنه شرع في كتابة سفر خروجه، بإلحاح عميق على محاولة العثور على الذات ولكن خارجها، من حيث انتماؤها إلى العالم. ثم أخذ يكرّر المحاولة في رواياته، مرة على شكل "سدهارتا" باحثاً عن حقيقة نفسه وعلاقته بأشياء العالم في الطبيعة وما وراءها، ومرة على شكل "دميان" الرواية التي أحبها العائدون إلى أوطانهم بعد الحرب العالمية الأولى، وأخيراً "لعبة الكريات الزجاجية" التي خرج فيها جوزيف كنيشت مواطن كاستاليا وسّيد اللعبة من بلاد اليوتوبيا، يبدأ في مساءلة ولائه للمكان المثالي، حيث النخبة التي فصلت نفسها عن واقع العالم ومشاكله. فيقرّر الخروج ليصبح معلّماً للتلميذ "تيتو"، لكنه يموت فجأة وينقطع السرد الذي بدأه الراوي، بعد غرقه في البحيرة.
بموت مواطن كاستاليا المباغت في الرواية- التي تدور أحداثها على أعتاب القرن الـ 25 يُعطَى القارئ مفتاحاً لقراءتها من جديد. الانقطاع القاسي في السرد يبدو لوهلة وكأنه عبثي، الرواية لم تنته بعد، لكن الراوي الأساسي الذي عشنا معه منذ تتلمُذِه حتى أصبح سيد اللعبة؛ مات. إذاً فنحن أمام بداية جديدة، ولكن قارئ هسّه يعرف أن الكاتب، المتأثر بشكل عميق بالبوذية والديانات الشرقية، يرى في الموت تحققاً، إنجازاً للمهمة، إنه الوصول.
في الفصل الأخير من الرواية والمعنون "أسطورة"، سيضع هسّه شعراً لكنيشت وقصة كتبتها الشخصية عنوانها "ثلاث حيوات" تتخيل فيها سيراً مختلفة لنفسها لو أنها عاشت في أزمان قبل زمانها (سنة 2400). في واحدة من حيواته السابقة المتخيلة، يفترض كنيشت أنه "صانع المطر" في زمن حكمت فيه النساء، وأنه سيهب نفسه قرباناً لينزل المطر على الناس.
لا يخفى الحس المستمر بالذنب والتأنيب والرغبة في الخلاص والتكفير والتضحية، وأحياناً تدمير الذات في قصص هسّه، إنه يخرج شخصيات من مأمنها بحثاً عن شيء غامض تجهله، لتتحول إلى كيانات مضطربة باحثة عن خلاص أو هلاك بتعذيب نفسها. كان هذا مصير "سدهارتا" و "غولدموند" (في "الموت والعاشق") و"هاري" (في "القيّوط" أو كما ترجمت بالعربية "ذئب البوادي")، وعلى الأخص هاري الذي لديه شخصيتان تتصارعان على حياته، والذي أعلن هسّه أنه انعكاس لشخصه هو.
إنه مريض يونغ (كان يتلقى العلاج لديه بعد أن توفي والده ومرض ابنه مرضاً خطيراً وأصيبت زوجته بالفصام) وأحد كتّاب فرويد المفضلين (خصوصاً روايته الأولى "بيتر كامينتسيند") وحائز نوبل للأدب عام 1946.