يعلو ضحك الإخوة الثلاثة، قبل أن ينقلب الحال إلى شجار صاخب. الأخ الأكبر وكما العادة، سرق كميّة من الزيتون الذي حوّشه الأصغر، وأضافها إلى ما سبق وجمعه هو في كيس الخيش الخاص به. وتبدأ مطاردة الصغير له، صعوداً ونزولاً في جلول البستان الممتدّ.
في هذا الصباح التشريني، وهي تمرّ بالقرب من البستان الذي كان لهم ذات يوم، تعود إليها ضحكاتهم وصياحهم ومشهد العراك الذي وقع. حدث ذلك في آخر قطاف زيتون تشاركوه. حدث ذلك قبل زمن طويل. غير أنها تستعيده اليوم بتفاصيله، بأدقّها. وتكاد تتذكّر حتى الملابس التي كانوا يرتدونها. هي ثياب خُصّصت للعمل في "الجنَينة".
في مثل هذه الأيام، أوان قطاف الزيتون. وهم كانوا يقصدون بستانهم في كلّ عام، في مثل هذا الموسم، لتحويش أشجارهم الأربع. كانوا يتسلّقونها لإتمام مهمّتهم. من غير المسموح فرطها بالعصي. من شأن ذلك أن يلحق الضرر بالحبوب الخضراء وتلك السوداء التي تميل إلى الباذنجاني. لطالما ردّد الجدّ ذلك ومن بعده الوالد، جازمَين. أما هي، ولأنها تخشى المرتفعات، فكانت - في أغلب الأحيان - تتولّى مهمّة جمع الحبوب التي سقطت أرضاً. لم يكن الأمر سهلاً. كان عليها أن تبحث عنها بتنبّه بين العشب وفي التراب. كثيراً ما كانت الحبوب الصغيرة تغور في الأرض الحمراء الطريّة التي سبق وسقتها أمطار الشتوة الأولى. لا يجوز قطف الزيتون قبل تلك الشتوة.
تلقي نظرة تطول إلى سياج ذلك البستان، حيث كانت تُثمر أشجار تين عديدة وكرمة على امتداده وشجرة خرّوب معمّرة وشتول خضار اختلفت صنوفها. هنا، نشأت علاقتها بالأرض.. بالقرية.. بالمكان.
ليست هي فقط التي خسرت بستانها، قريتها كلّها تفقد في السنوات الأخيرة أحراجها شيئاً فشيئاً، لتختفي مساحاتها الخضراء ويتلاشى طابعها. تضيع هويّتها.. وتضيع هويّتاهما.
تبدو الهويّة المكانيّة اليوم مهدّدة أكثر فأكثر، مع فقدان الأمكنة خصوصيّتها. بفقداننا هويّتنا المكانيّة، تتزعزع هويّتنا الشخصيّة. مع ضياع واحدة من نقاط ارتكازنا المرجعيّة، يهتزّ توازننا. مع ضياع واحدة من سمات خصوصيتنا، ترتبك ذاتنا.
في ماضٍ بعيدٍ لم نعاصره، نادراً ما كان يُطرح السؤال: "من أنا؟". الهويّة الشخصيّة كانت - في الغالب - مرتبطة بتلك المكانيّة. كان المرء يدرك أنه سوف يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث أبصر النور.
اليوم، نحاول الهرب من هويّة كانت لنا.. مرتبطة بـ "الهُوَ" الفرديّة. نجد أنفسنا ونحن نبحث عن هويّات أكثر شموليّة. نهرب من أنفسنا بحثاً عن إطار أوسع.. كأننا نخاف اكتشاف أنّ هويّاتنا زائغة.
اقرأ أيضاً: نحبّ الأرض