كان ذلك قبل أن يطوي هولاند صفحة التردد الفرنسي تجاه السيسي وبعدما دان بقوة الانقلاب العسكري، عاد واستقبله لاحقاً في باريس، في زيارة رسمية احتفت به وتم التفاوض خلالها بشأن صفقة "رافال" ضخمة شملت فرقاطة وصواريخ متطورة. والتزمت باريس ــ هولاند الصمت بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان في مصر ولم تعلق على أحكام الإعدام الصادرة في حق الرئيس المعزول محمد مرسي وعدد من الشخصيات المعارضة. وبلغ التفاهم الفرنسي المصري ذروته في مشاركة هولاند في تدشين قناة السويس الجديدة أخيراً، بحيث جلس إلى جانب السيسي في المنصة الرسمية، في بادرة اعتبرها مراقبون هدية دبلوماسية للسيسي من أجل تلميع صورته في المحافل الدولية.
وكان هولاند قد أولى، منذ اعتلائه السلطة عام 2012، أهمية خاصة للدبلوماسية الفرنسية عربياً. وظهر المؤشر الأول من خلال الزيارة التي قام بها إلى السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني بعد أشهر قليلة من فوزه في الانتخابات الرئاسية.
اقرأ أيضاً: العلاقات الفرنسية الخليجية تتقدم..
دفء مع الرياض
وعكست هذه الزيارة ميلاً استراتيجياً إلى الرياض من أجل إعادة الدفء للعلاقات بين فرنسا والسعودية التي عانت من البرود الدبلوماسي خلال ولاية سلفه نيكولا ساركوزي. وعاد هولاند إلى السعودية في زيارة ثانية في ديسمبر/كانون الأول عام 2013 برفقة وفد ضخم ضم الوزراء الأساسيين في الحكومة الاشتراكية ونخبة من كبار رجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين. ورسمت هذه الزيارة معالم التفاهم الاستراتيجي بين البلدين بخصوص الأوضاع في سورية والعراق والتغلغل الإيراني في المنطقة العربية.
وعندما توفي الملك عبدالله كان هولاند من السباقين لزيارة الرياض وتقديم التعازي لخلفه الملك سلمان بن عبد العزيز. ووصل الانسجام الفرنسي السعودي ذروته في مايو/أيار الماضي، حين حل هولاند، في سابقة هي الأولى من نوعها، ضيفاً على قمة مجلس التعاون الخليجي الاستثنائية في الرياض بدعوة من العاهل السعودي. وخلال هذه الزيارة تعهد هولاند بالدفاع عن حلفاء فرنسا في منطقة الخليج، ولو "عسكرياً"، في مواجهة أي تهديد خارجي، في تلميح إلى ايران التي كانت في مراحل متقدمة من التفاوض بشأن برنامجها النووي مع الدول الست الكبرى. كما أعاد هولاند التأكيد على الدعم الفرنسي المطلق للتدخل السعودي في اليمن ضد المتمردين الحوثيين. وفي ظرف ثلاث سنوات فقط من حكمه، نجح هولاند في رسم معالم سياسة فرنسية جديدة في منطقة الخليج مبنية على تحالف استراتيجي مع السعودية ضد المدّ الإيراني وترسيخ شراكة اقتصادية وتجارية مع دول المنطقة تدر مليارات الدولارات على باريس من خلال صفقات تسليح ضخمة لبيع مقاتلات "رافال" مع السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.
وظهر التفاهم الفرنسي السعودي واضحاً في المسألة السورية، إذ تمسك الطرفان بدعم المعارضة السورية وضرورة رحيل رئيس النظام بشار الأسد عن السلطة، واستحالة أن يكون جزءاً من أي حل سياسي، في أكثر من مناسبة.
كما تتشارك باريس والرياض الحرص على إبعاد النزاع السوري عن لبنان الذي زاره هولاند في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وأعلن أخيراً أنه سيزوره في المستقبل القريب. وأبدى هولاند في أكثر من مناسبة حرصه على دعم لبنان ومؤسساته الشرعية وأمله في أن تتمكن الأطراف السياسية اللبنانية من التوافق على انتخاب رئيس جديد. كما أن هولاند، وبفضل هبة سعودية، يحرص على تطبيق خطة طويلة الأمد لتسليح الجيش والقوى الأمنية اللبنانية.
اقرأ أيضاً: هولاند والسيسي والحب المفاجئ
تحالف استراتيجي مع الجزائر
وإلى جانب الرياض، برزت الجزائر كمحطة رئيسية في أجندة الرئيس الفرنسي. فقد شهدت العلاقات الفرنسية الجزائرية انتعاشاً لافتاً وتطوراً واسعاً في مختلف المجالات منذ وصول هولاند إلى الحكم بفضل علاقة شخصية وطيدة تجمع بينه وبين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. وزار هولاند الجزائر مرتين عزّز فيهما التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين، ونجح في طي صفحة ساركوزي الذي لم يكن يتمتع بسمعة جديدة لدى المسؤولين الجزائريين بسبب مزاجه الحاد والمتقلب، إضافة إلى علاقاته مع المغرب "جارة الجزائر اللدود".
ونجح هولاند في تمتين التعاون الأمني مع الجزائر ودعم عملية "برخان" العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل، حيث تتعقب فرنسا التنظيمات المتطرفة التي يقود غالبيتها أصوليون جزائريون هاربون من السلطات الأمنية الجزائرية. وانعكس التفاهم الفرنسي الجزائري أيضا في الرعاية المشتركة لمفاوضات السلام بين الحكومة المالية والمتمردين والتي توجت أخيراً بالتوقيع على اتفاق السلم والمصالحة بعد ضغوط جزائرية وفرنسية على "تنسيقية أزواد" التي تضم الحركات المتمردة للطوارق والعرب في شمال مالي.
مصالحة المغرب
وإذا كان التقارب مع الجزائر مسألة استراتيجية، فإن الحرص على علاقة تحالف متينة مع المغرب أساسي في أجندة الرئيس الفرنسي. وكادت العلاقة بين باريس والرباط تصل إلى حد القطيعة عندما بادرت الأخيرة إلى تجميد العلاقات الدبلوماسية وتعليق الاتفاقيات القضائية والأمنية بين البلدين بسبب إقدام السلطات الفرنسية على استدعاء مدير الاستخبارات المغربية عبداللطيف الحموشي للتحقيق معه في اتهامات بالتعذيب خلال زيارة هذا الأخير لباريس. ودام الجفاء بين البلدين طيلة عام 2014 وبذل هولاند جهوداً كبيرة للمصالحة بين البلدين، وبعث برئيس الوزراء مانويل فالس إلى الرباط للبحث في سبل تنقية الأجواء وقام بترضية المغرب من خلال التوقيع على اتفاقية قضائية جديدة توفر الحصانة القضائية للمسؤولين المغاربة خلال زيارتهم لفرنسا. ووصل مسلسل المصالحة ذروته باستقبال هولاند العاهل المغربي محمد السادس في قصر الإليزيه في 9 فبراير/شباط الماضي، ما أتاح العودة بالعلاقات إلى وضعها الطبيعي وتعزيز التعاون بين باريس والرباط، خصوصاً في المجال الأمني وملاحقة الخلايا الجهادية التي ينشط فيها فرنسيون من أصل مغربي.
دعم الثورة التونسية
وبالإضافة إلى الجزائر والمغرب، اهتم هولاند بتونس التي زارها مرتين الأولى في يوليو/تموز 2013 حين تم استقباله من الرئيس السابق منصف المرزوقي. وعبر هولاند أثناء الزيارة عن دعم باريس الكامل للثورة التونسية ومسارها الديمقراطي. وجاءت الزيارة الثانية في مارس/آذار مارس الماضي، حين شارك هولاند بمسيرة ضد الإرهاب في العاصمة التونسية بعد الاعتداء الدامي الذي وقع في متحف باردو. وبخلاف ساركوزي الذي اشتهر بدعمه للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وقف هولاند بقوة إلى جانب الثورة التونسية ومنح تونس دعماً مالياً كبيراً لمساعدتها على الخروج من الأزمة الاقتصادية. وفي أبريل/نيسان الماضي، استقبل هولاند الرئيس التونسي الجديد الباجي قائد السبسي، في زيارة دولة تمخضت عن إلغاء مبلغ 66 مليون دولار من ديون تونس لفرنسا والتوقيع على حزمة من الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين. ويحرص هولاند بشكل خاص على دعم تونس في محاربتها للتنظيمات المتطرفة وتأمين حدودها مع ليبيا لوقف تدفق السلاح والعناصر الإرهابية.
عقدة ليبيا
وتشكل ليبيا عقدة كبيرة للرئيس الفرنسي، الذي يعتبر التدخل العسكري الفرنسي الذي قاده سلفه ساركوزي وأدى إلى إطاحة العقيد معمر القذافي خطأً سياسياً فظيعاً، لكونه لم يؤسس لمرحلة انتقالية آمنة لما بعد القذافي، وجعل البلاد تدخل في فوضى سياسية وأمنية تدفع فرنسا الآن ثمنها باهظاً في منطقة الساحل، حيث يتدفق السلاح الليبي إلى التنظيمات المتطرفة التي تسعى فرنسا بصعوبة إلى استئصالها.