إلى سجون الاحتلال يحمل الأسرى الفلسطينيون هواياتهم، وينمّونها هناك، مع الوقت الطويل، خلف القضبان. وبعضهم تولد مواهبه هناك، فيمارسها ويتقنها ويخرج بها كذكرى وحيدة طيبة من سنوات السجن الطويلة.
عبد الناصر عثمان الخالدي (45 عاماً) أحد الأسرى السابقين من سكان مخيم الشاطئ. أمضى في سجن النقب الجنوبي أكثر من 4 سنوات منذ عام 1986 حتى عام 1990. وهناك اكتسب هواية نمت عبر الأيام، لكنه قطعها في أواخر الانتفاضة الأولى عام 1991، لملاحقته مجدداً بعد الإفراج عنه. واستمرت مطاردته عاماً ونصف عام، ليعتقل بعدها في مرات عديدة للتحقيق معه.
يقول لـ "العربي الجديد": "في السجن، كنا نجد الوقت الكامل للدراسة والتثقيف الذاتي. وهناك، في سجن النقب تحديداً، بدأت ممارسة هواية صنع المشغولات النحاسية والخشبية".
تعلّم الخالدي هذه الهواية، الحرفة من الأسرى القدامى داخل السجن. فقد كان هؤلاء يصممون ببساطة الأشكال، لعدم توافر الإمكانيات. ومع ذلك، تمكنوا من صنع تحف فنية شدّت الخالدي، ودفعته لتعلم أسس العمل فيها والتعمق في صنعها.
وبعد الإفراج عنه، وتوقف الملاحقات المتقطعة، عمل الخالدي في وظيفة حكومية داخل وزارة النقل والمواصلات. وتابع ممارسة هوايته لكن بشكل خفيف. ومع توقفه عن العمل، أخيراً، برفقة عدد كبير من الموظفين في قطاع غزة المضربين، وجد الوقت اللازم لمعاودة ممارستها. يقول عن ذلك: "منذ فترة أجمع القطع الخشبية والنحاسية من أجل البدء في الكثير من أعمال الزينة والأثاث. كما أعمل على الكثير من أدوات المنزل بشكل متقن بدلاً من المشغولات التقليدية، وأزين بيتي بكثير من مشغولاتي".
يشير الخالدي إلى أنّه يعمل بشكل دقيق على منحوتاته الخشبية الصعبة. ويستفيد في ذلك من خبرة أحد جيرانه ممن عملوا في صنع مجسمات القوارب القديمة. فقد كان يجلس بجواره في صغره، ويتأمل كل أجزاء تلك القوارب، حتى حفظها في ذهنه، واستخدم أدوات متواضعة كالمنشار والمسامير ومادة "فيبرغلاس" في مشغولاته الخاصة لاحقاً.
لم يستغل الخالدي موهبته للكسب المادي، بالرغم من تلقيه العديد من العروض من أجل تقديم أعماله في معرض ومشغل خشبي. فهو ما زال يصر على متابعتها كهواية فقط. ويقول عن ذلك: "طورت الكثير من قدراتي الفنية، واستغللت وقتي بما يفيد ويرضيني. فالإحساس بالشيء والحاجة له هما ما يجعلك تصنعه. لست شخصاً محترفاً لكنني أبدعت في هذه الحرفة رغم أنها تحمل ذكرى صعبة عن السجن وسنوات الاعتقال".
ويصنع الخالدي، في الوقت الحالي، مجسمات خاصة بالرموز الدينية والمعالم الأثرية والأبراج العالمية وغيرها. وتتزين جدران منزله بنماذج من هذه الأعمال كبرج إيفل الذي تعرض خلال تصميمه للإصابة بجروح خطيرة في أصابع يده. لكن لم يمنعه ذلك من التوقف عن أداء أي من أعماله.
وبالإضافة إلى تلك المجسمات، يتقن الخالدي صنع السيوف التاريخية بالعديد من أنواعها المعروفة عالمياً. وقد أنجز سيوفاً عربية ودمشقية ويابانية، تعرف على أشكالها عبر الإنترنت. واستخدم القصدير والفولاذ في إنجازها.
يشعر الخالدي بضيق كبير عندما لا تتوافر لديه المواد المطلوبة لتصميم مشغولاته. كما أنّ حالته المالية لا تسمح له أحياناً بجلب تلك المواد والأدوات.
ومن جهة أخرى، يطلب الخالدي الاهتمام بالنشاط الفني في قطاع غزة، خوفاً من موت المواهب فيها. ويرى أنّ المشهد الفني في القطاع يعاني من ضعف الاهتمام الرسمي، وقلة صالات العرض المتاحة لعرض الأعمال، بالرغم من أن هذه الصالات والأنشطة التي تقام فيها تكاد تكون المتنفس الأخير أمام المهتمين بالتفاعل والاطلاع على الحركة الفنية، خصوصاً مع استمرار الحصار، والضائقة المالية التي تعصف بالقطاع.