إنها رحلتي الثامنة إلى القاهرة، وكلما رفعت طبقة من الحقيقة تتجلى تشعبات جمّى. بدأت لهجتي المصرية تتحسّن عن ذي قبل، فإن أقللت في الكلام لن يعرف سائق التاكسي أني لست مصرياً. خلال الرحلات السبع السابقة، تعلّمت أن رؤية القاهرة تحتاج إلى الوقت والصبر. اخترْ مكاناً وكن فيه حاضراً، يكفيك أن تنتظر القليل من الوقت وسيأتي السحر إلى جوارك. في القاهرة عليك أن تدع الوقت يمر، تماماً كما يتم تسريع الصور الفيديو، لنعود ونبطئ بعض اللحظات التي لا يمكن نسيانها. قد يجدها الكثيرون قليلة هذه اللحظات لكنها حين تأتي، فهي تأتي كثيفة ومدهشة.
من شرفة الفندق الذي وصلت إليه ليلاً، أدخن سيجارة وأسمع الموسيقى المتصاعدة من الملاهي المنتشرة في العوّامات الراسية على ضفاف النيل، وأرى الأضواء المنعكسة من المياه، والمباني الضوئية المختبئة في ظلمة المدينة. قد يكون ذلك ضجيجاً، لكن القليل من الوقت والصبر سيحوّل هذا الأمر إلى سحر. اخترْ مكاناً عالياً يطلّ على النيل، وتأملْ بهدوء. هاهو مطر شهر مارس/آذار يغسل سماء القاهرة المليئة بالغبار.
في الصباح، من الشرفة نفسها، المشهد نفسه مع نور الشمس. تنكشف طبقات المدينة وألوانها، لا يمكن تفادي التصوير الفوتوغرافي. فلنصف الصورة إذن:
هضبة المقطم في اليسار البعيد، أمامها حي السيدة، ثم وسط البلد، وصولاً إلى ميدان عبد المنعم رياض، حيث المتحف الوطني بلونه الزهري، عقدة المواصلات مع كوبري 6 أكتوبر، الذي يعبر فوق النيل إلى يمين الصورة، حيث نادي الجزيرة، الجزيرة التي تنقسم إلى حيي الأوبرا والزمالك، وخلف النادي برج القاهرة، وإلى يمينه لو دققنا قليلاً سنرى أوبرا القاهرة، خلف الجزيرة تتعالى مباني حي الدقي. إنها الجيزة وفي البعيد على الهضبة العالية تتعالى الأهرامات.
لا أصدق أنني أتمكن من رؤية الأهرامات تعتلي المدينة من شباك غرفتي. كل الأماكن التي مرت عيني عليها في الصورة هي أماكن تجدر زيارتها، حتى كوبرى 6 أكتوبر، فهو تجربة فريدة لاختبار الزحمة، الأمر الذي لا تريد أن تتحداه في القاهرة.
إليكم بعض الأماكن التي يمكن انتظار السحر فيها. فلتجلس في أحد المقاهي في برج أم كلثوم من جزيرة الزمالك، ولتنظر إلى النيل. اذهب إلى مقهى جروبي، ليس أفضل المقاهي من حيث جودة المأكل والمشرب، ستدخل إلى أحد أقدم المقاهي المحتفظ بديكوراته القديمة، حيث يمكنك الجلوس هناك للنظر إلى الشارع حيث يمر الناس.
توجه إلى منطقة المعادي واتخذ موقعاً في أحد مقاهي شارع 9، أو قهوة ليلى على الكورنيش حيث الهدوء الموحي بالخدر، خلفك أبراج المدينة وأمامك جزيرة غناء يفصلك عنها ماء النيل، سيكون حظاً جيداً لو انقطعت الكهرباء في أول دقائق الليل لتستمتع بصفاء بري يضعك في برزخ بين المدينة والطبيعة.
نكمل مشوارنا، فلتجلس في "الأزهر بارك" مطلاً على مصر، خلفك القلعة وأسفلك المدينة بحواريها الشعبية. هل ننسى مقاهي البورصة في وسط البلد، حيث يمكنك الالتقاء بالناس والتعرف إليهم؟ ولتتمشَّ في الكوربة بمصر الجديدة، حيث يحلو التسكع والانتقال من مقهى إلى آخر.
يمكنني الاستمرار طويلاً في القائمة لكني سأنتهي بالمقطم. فلتمرّ على المقطم في مواقيت مختلفة. في المقطّم، المثير من المتنزهين عند العصر. العاشقون ينتقون أماكن تلائم التخفي، مجموعة من الشبان يلعبون الكرة، عائلة تجتمع حول سندويتشات، كلهم ينظرون نحو المدينة. لم يعد المقطم أقصى شرق القاهرة، فقد امتدت الأحياء الجديدة إلى شرقه، إلا إذا صعدت إلى أعلى ونظرت نحو الغرب سترى مدينة من خيال، وإذا دققت سترى الأهرامات تعتليها، كما لو أنها مبنية على غيمة فوق القاهرة.
حماوة النهار قد خلقت "شبورة" تجعل ضوء الغروب الأحمر كثيفاً تبدو المدينة بحراً، قليل من الوقت ويتصاعد صوت الآذان، بل أصوات الآذان من البعيد، ويهبط الظلام على مدينة لن تنام.
عدْ في الصباح الباكر، بعد ليلة ممطرة، كي ترى مشهداً آخر. السماء رائقة، والمباني تبدو نضرة، يفزعك حجم المدينة الممتدة من الشمال إلى الجنوب. والأهرامات لا زالت هناك، تنظر إليك. من فوق، وفي التوقيت المناسب، لا شيء يستطيع أن يضاهي سحر القاهرة. أما على الأرض، في الشوارع وبين الأحياء الفقيرة والغنية فأمر آخر.