ماذا لو جاءك كتابٌ كما تأتيك وجبة "كنتاكي" أو "ماكدونالد"؟ هل سيجعلك ذلك تقرأه بشهيّة تشبه شهيّة التهام وجبة سريعة وساخنة، تصلك من دون أن تتحرّك من مكانك؟
لا شكّ في أن النمط المتسارع للحياة أوجد أنماط سلوك سريعة، منها إقبال القارئ على الكتب الإلكترونية، الأقلّ كلفةً من الكتب الورقية، فبات وجود شركات لتوصيل الكتب حاجةً ملحّة، فإلامَ يؤشّر وجود مثل هذا النوع من التسويق؟ وما هي الكتب التي تُطلَب؟
تحتلّ الرواية موقعاً بارزاً بين الأجناس الأدبية الأخرى، ربما لكونها قادرة على استيعاب أجناس أخرى كالقصة القصيرة والمسرحية والشعر، كما أنها قادرة على منح مساحة من الحرية تُمكّن الكاتب من التعبير عن مواقفه الفكرية ومعالجتها بتفصيل، وهي لصيقة بإفرازات العصر وقادرة على هضم صراعاته.
ومن أسباب تفوّقها، أيضاً، حقيقة تضاؤل الاهتمام بالشعر، ربّما لأن الذائقة العربية لم تستطع إلى اليوم حسم موقفها منه، فتاهت بين قديمه وحديثه، كما لا تخفى إمكانية ارتباط رواج الرواية بالجوائز الأدبية المستحدثة. وساعتئذٍ، يمكن أن نفهم أنّ القارئ العربي ضحية، لأنه يسعى إلى ما هو أكثر حضوراً كمّياً على حساب النوع، بسبب تزايد الاهتمام بالمسابقات المخصّصة للرواية، فهل يشتري العربي الروايات كما يطلب الوجبات السريعة لأن السرعة حاجةٌ من طبيعة هذا العصر؟ أم لأنه يسعى إلى الهروب بسرعة عبر الرواية من واقعٍ أفرزه هذا العصر؟
ولكن ماذا يقرأ الآخرون في العالم؟ يقول بريندان براون في تقرير نشره موقع "غلوبال إنغليش إديتينغ" (Global English Editing): "بالنسبة إلى الكتب الأكثر مبيعاً، تُعدّ "دون كيشوت" الأولى عالمياً مع رقم مبيعات يُقدَّر بخمسمئة مليون نسخة، كما حجزت سلسلة "هاري بوتر" مكانةً لها بين الكتب الأكثر مبيعاً؛ حيث باعت، هي و"الطفل الملعون"، مليونَي نسخة، وكانت "البست سيلر" في الولايات المتّحدة لعام 2016".
يبدو أنّ ذائقة العرب لا تبتعد كثيراً عن ذائقة القرّاء من جهة الاهتمام بالرواية، ولكن مقارنة معدّلات البيع في البلاد العربية بمعدّلاته في بلدانٍ أُخرى تُظهِر الهوّة في حجم المبيعات؛ إذ لم يسبق أن عرفنا، إلى اليوم، أنّ كتاباً عربيّاً من أيّ نوع كان حقّق مبيعات بالملايين، حتّى تلك الإصدارات التي تُعدّ ضمن "الأكثر مبيعاً"، ولا حتّى تلك التي كان لأصحابها شأنٌ في عالم الرواية العربية؛ ككتب نجيب محفوظ صاحب "نوبل للآداب"، والتي صدرت في بلدٍ يزيد عدد سكّانه عن ثمانين ميلون نسمة، في حين أنّ قرّاء دان براون يحجزون أكثر من مليون نسخة من رواياته حتى قبل أن تصدُر. أمّا هاروكي موراكامي، فيكفي أن يُعلَن عن صدور روايةٍ له، حتى يقف الآلاف في انتظارها، فهل واقع الرواية عند العرب مشابه لموقعها في العالم فعلاً؟
لو سلّمنا جدلًا بأنّ الرواية هي الأكثر طلباً ومبيعاً، فإنّ ميل الذائقة العربية إليها له دلالات ترتبط بواقع العربي؛ فالقارئ ربّما يُعوّض نقص أوكسيجين البطولة في الواقع المعيش، أو لعلّه يحاول أن يُفسّر الحياة الآخذة في التغيُّر بنمط متسارع، إذ كما يقول بول ريكور: "لا تُفهَم الحياة إلّا من خلال القصص التي تُروى عنها"، وفي كلا الاحتمالين ما ينبّئ عن عطش إلى البطولة، سواء كان البطل الروائي مجرماً أم صالحاً، فالقتل أحياناً قد يُحقّق انتصاراً على الشر، وهو ما أسماه هيغل بقانون السلب.
إذا كانت الروايةُ "ملحمةَ البرجوازية" كما يقول جورج لوكاتش، فهي تحاكي طبيعة عصرنا ما بعد الحداثي، لجهة بروز ثروات متضخّمة لدى بعض الشعوب العربية، دون شعوب أخرى، ممّا أفرز ذاتين متناقضتين، لكنّهما في الحقيقة وجهان لعرَض واحد هو المال: إحداهما متخمة والأخرى تبحث عن تلك التخمة بإشباع المظاهر. كما يجري البحث عن الذات والإيغال في تفاصيل اليومي والشخصي، كمعبرٍ إلى الشعور بالحرية، بعيداً عن الخطاب الرسمي، في عالم عربي يضجّ بالقمع والحروب التي تُشنّ ضدّ الشعوب من قبل الأنظمة الدكتاتورية، لذلك فليس بعيداً أن يكون الميل إلى الرواية يشبه العصر كذلك، باعتبار رغبة القارئ في الالتصاق بعوالم بدائية حلمية أثيرة، تكاد حياته تُلقي عليها تحية الوداع.
لعلّ في التقاء الذائقة العربية مع غيرها في بلدان العالم الأخرى، ليس فقط من ناحية المظهر والمأكل وبعض العادات التي انتشرت في البلاد العربية، إشارة إلى ما يمكن تسميته عولمة الطبائع، فالإنسان العربي الذي عرف الكثير من الحروب وما يزال يعرفها ويحياها باختلاف أشكالها، ينحو كما الصيني إلى قراءة الروايات، ولا يكتفي بالتلذّذ بالأطباق الصينية التي غزت العالم العربيّ... فهل يمكن القول إنّ ظاهرة العولمة جعلت الذوق الأدبي عالميّاً متشابهاً إلى درجة كبيرة؟ وهل هذا صحي؟ وهل يؤهّل ذلك الإنسان العربيّ أن يأكل وجبة سريعة وهو يشعر بالمساواة الحقيقية مع نموذج يُسعى له أن يكون الأسمى والأكثر تفوُّقاً؟
* كاتبة من فلسطين