هل يفعل الشعر هذا كله؟

30 اغسطس 2018

(منير الشعراني)

+ الخط -
سين: "الشعراء ربما من أكثر الناس شعورا بالتشظّي، وبالألم، وبالغربة.. كل هذا الألم والحزن ماذا يمنح الشاعر ليشعر بكل هذا الفخر؟ ماذا أعطاك الشعر؟".
‏جيم: ولكن.. هل يفعل الشعر كل هذا حقاً؟ أم أن الشاعر يشعر بهذا كله، فيتجه إلى الشعر، بحثاً عن خلاصٍ أو ملاذ آمن؟
الشعر لم يفعل بي هذا كله، بل لعله أهداني النقيض تماما. أو لعله فعل، ولكنني لا أريد الاعتراف بذلك الآن!
بواسطة الشعر، تعرّفت إلى ذاتي، وإلى الآخرين، وربما اكتشفت العالم. ومن خلاله، استطعت أن أتقبل واقعي، وأقبل بنواقصي وأحبها أيضا. عن طريقه، اكتشفت ثغرات الروح، ومآخذ القلب، وتلك الآثام التي لا بد أنها تراودني عن نفسي، حتى وإن تجاهلتها، أو حاولت أن أغير أسماءها، لكي أدّعي أنني لم أكن أعرف أنها آثام، عندما سمحت لها بعبور آمن نحوي.
بالكلمات وحدها، وهي تنتظم في سلك القصيدة، استطعت أن أسير في طرق ملتوية ومليئة بالحفر والأشواك، من دون أن أتعثر أو أقع. كنت أتوكأ شعري، وأنا أنظر إلى السماء، من دون خشية أن أقع في حفرةٍ أو مستنقع، مما يكثر في شوارع الحياة، ولعلي كنت أقع فعلا، وسرعان ما أنهض متمسكةً بمفردةٍ شاردة، لتلحق بغيمةٍ ما، فتكون مطلعاً لقصيدة.
نعم.. بكل ثقة ومعرفة وطمأنينة، أستطيع أن أقول إن السيد الشعر حماني، حتى من نفسي، في أقسى تحولاتها وأقصى تطرّفها، وصنع لي خيمةً دافئةً جدا، واسعة الأرجاء، حتى لا أكاد أراها، وبلا سقف على الإطلاق، فقد عوّدتني القصيدة أن تكون هي المآل الحر. وعليّ دائما أن أقول إن ذلك تم ليس بالشعر الذي أكتبه، أو أفكر فيه بلا كتابة وحسب، بل الذي أقرأه أيضا مما يكتبه الآخرون، المنتمون لقبيلة الشعر في الوجود كله. كانت رؤيتي تتسع وتتسع، مع كل نص شعري جديد أقع عليه، فلا تحدّها سوى دهشتي التي بقيت طفلةً لم تكبر أبدا. وربما لا أبالغ إذا قلت إن السيد الشعر قد أهداني فرحي الأكبر والمتكرّر، حتى وإن لم يظهر بذلك الشكل الملون الفرح والصاخب، ويكفي أنه شذّب من آلامي الوحشية، وفتح أبواب غربتي الأزلية لآفاق الكون كله، فلا غرو إن انتميت إلى صدفة مهملة في شاطئ بائس، أو ورقة شجر صفراء، أهدرتها رياح الخريف، تحت أقدام عمّال يشتغلون في الرابعة فجرا، أو حتى نجمة لا تظهر في خريطة السماء للعين المجرّدة! وهو ما ساهم في تأكيد إيماني بجدوى هذه الحياة، بكل منغصّاتها والخدع الكثيرة التي نكتشفها، ونحن نغوص في طينها يوما بعد يوما.
‏نعم.. أنا مدينة للسيد الشعر بكثيرٍ مما هو حقيقي وجميل ونقي ومكتمل في حياتي.
مدينةٌ له بسبب بقائي على قيد الحياة والكتابة والأمل، على الرغم من كل ما يدعو إلى نقيض ذلك.
مدينة له بتعويضي عن كل ما يمكن أن يكون نقصي وعيوبي. وقد يكون الشعر كله، والذي كان من حسن حظي أنني تعرّفت إليه في فترة مبكرة جدا من حياتي، ساهم في التشظّي والألم والحزن والغربة، حيث هو الوجود الذي وجدتُني عليه، لكنه التشظّي الذي كان لا بد منه لإعادة الخلق، والألم الذي كان لا بد منه لإعادة التكوين، والحزن الذي كان لا بد منه للشعور بلذّة الفرح، والغربة التي كان لا بد منها للشعور بقيمة الإنسان الفرد!
دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.