جاء التصريح المقتضب لرئيس حركة "النهضة" التونسية راشد الغنوشي حول إمكانية عدم ترشحه لرئاسة الحركة في المؤتمر المقبل لها، ليُشكّل مفاجأة من العيار الثقيل لكل متابعي الندوة التي التأمت نهاية الأسبوع في مدينة الحمامات، حين أعلن أنه "لم يحسم الأمر بعد ومن المحتمل ألا يترشح لرئاسة الحركة".
احتمال غريب في رأي بعض المتابعين بالنظر إلى الجهد التصحيحي الذي يقوده الغنوشي، والذي يتعارض مع جزء كبير من قواعد الحركة ومن بعض قيادييها أحياناً اخرى.
تصريح الغنوشي جاء على هامش ندوة عقدتها الحركة تحت عنوان "حركة النهضة... الآفاق الفكرية والسياسية"، ونظمتها "لجنة الإعداد المضموني" للمؤتمر العاشر للحركة، يومي السبت والأحد الماضيين، وتزامنت مع ذكرى مرور أربع سنوات على حصول "النهضة" على ترخيصها القانوني "بعد انتظار دام ثلاثين سنة كاملة من العذابات والمآسي والسجون والمنافي"، كما ورد في تهنئة الحركة لمناصريها.
الندوة جاءت لتطرح سؤالاً جوهرياً حول مستقبل الحركة وهويتها، بالنظر إلى المتغيرات المحلية والدولية، والسياقات الداخلية التي أرجأت قيادات "النهضة" طرحها إلى مؤتمرها المقبل، لتفصل نهائياً في قضية تلازم الجانب الدَعَوي والحزبي الذي رافق الحركة منذ تأسيسها.
استغلال الغنوشي هذه المناسبة بالذات لطرح إمكانية عدم ترشحه لرئاسة الحركة في مؤتمرها المقبل يحمل معاني عديدة، ويعيد نقاشاً كبيراً وخافتاً في أروقة الحركة يدعو إلى تجديد القيادات، ويُخرج بعض الامتعاض الذي عبّرت عنه العديد من القيادات في محطات سياسية قريبة، الأمر الذي أدى إلى بعض التشققات في الحركة، ويعيدها من جديد إلى سطح الأحداث، ويغري بعض الطامحين في رئاسة الحركة وخلافة الغنوشي.
غير أن التصريح اللافت سيغذي أيضاً ومن جديد صراع التيارات المختلفة داخل الحركة قبيل انعقاد المؤتمر، وهما بالأساس تياران بارزان، أولهما تيار الغنوشي وأنصاره الذين يرون في تجديده لفكر الحركة والذهاب بها إلى حداثة سياسية تعتمد البراغماتية ولا تتجاهل المتغيرات وتُقدّم التنازلات وتنتصر للديمقراطية وتُراجع نصوصها الأصلية إلى درجة القطع مع بعض الأصول التي أسست للحركات الإسلامية في عديد البلدان العربية، فيما يقف على الجهة المقابلة تيار أصولي يرى أن الحركة قدّمت العديد من التنازلات المرجعية والفكرية والسياسية وفقدت جزءاً من هويتها ومن مساحتها السياسية الممكنة.
ولا تنفي سيطرة هذين التيارين وجود بعض الأصوات الأخرى داخل "النهضة"، لا تختلف مع الغنوشي على المستوى الفكري وعلى مستوى تحديث الحركة، ولكنها لا تتفق معه سياسياً وترى انه أفقد الحركة الكثير مما كان يمكن أن تجنيه في السنوات الأخيرة، وبعضها لا يتفق مع أسلوب إدارته للحركة وللعلاقات السياسية في تونس، وخصوصاً تقاربه الكبير مع حزب "نداء تونس" و"شيخه" الباجي قايد السبسي.
أما أبرز القيادات التي عبّرت عن غضبها من "الشيخ المؤسس"، فهما الصادق شورو والحبيب اللوز المحسوبان على التيار الأصولي داخل الحركة، وحمادي الجبالي ورياض الشعيبي الغاضبان على الخيارات السياسية، وعبد الفتاح مورو صديق الغنوشي الذي يختلف معه في أسلوب إدارة الحركة ويرى أنه لا بد من إعطاء قيادة الحركة للشباب، هو دعا في مناسبات عديدة الغنوشي إلى الابتعاد عن قيادة الحركة. هذه القيادات تجد صدى ومناصرين لها من بين الكوادر الوسطى وقواعد "النهضة".
اقرأ أيضاً: جدل تونسي حول إطلالة سيف الطرابلسي
وجاء حضور الأمين العام للحركة المستقيل حمادي الجبالي خلال ندوة الحمامات، ليفتح شهية التأويلات حول خلافة الغنوشي، وعودة الجبالي الذي لا يتعارض جوهرياً مع الغنوشي، على الرغم من اختلافه المعلن معه حول إدارة الحركة وحول التنازلات السياسية التي قدمتها "النهضة" في السنوات الاخيرة والتي جعلتها تتراجع بحسب الجبالي.
غير أن تصريح الغنوشي بإمكانية عدم ترشحه لا يعني قطعاً أنه لن يترشح، وإنما هي مجرد إمكانية ستجد معارضة قوية من داخل الحركة ومن خارجها، وهناك من يعتقد بأن ذلك يمكن أن يُعتبر بمثابة اختبار لجعل الترشح من جديد ليس فقط رغبة شخصية وإنما مطلباً يدعمه جزء لا بأس به من كوادر الحركة.
فتيار الغنوشي داخل "النهضة" قوي ويُشكّل الأغلبية من دون شك، ويلتقي مع نظرة كثيرين من خارج الحركة الذين يرون أن الغنوشي استطاع أن يُطوّر "النهضة" وأن يوجّهها في اتجاه الإقرار بالمكاسب المجتمعية التي تحققت للمرأة وللشباب، وهو الأقرب من بين شيوخ الحركة إلى الحداثة وبإمكانه إجراء تطورات حقيقية في التفكير الإسلامي عموماً. ووجدت فيه هذه الأحزاب شخصية يمكن التحاور والتقارب معها سياسياً وفكرياً لأنها تنبذ العنف وتتبنى الممارسة الديمقراطية، بل تدعو إلى التقارب والاندماج السياسي، وستسعى هذه القوى بالتأكيد نحو دفع الغنوشي إلى التراجع عن نيته في الانسحاب في هذا التوقيت بالذات لأن هذا سيفتح الطريق أمام متشددي "النهضة" بما فيه من تأثير على المشهد السياسي التونسي الهش برمته.
ويبدو أن ما يحدث في الآونة الأخيرة داخل الحركة، بما فيها سؤال الخلافة، قد أثار غضب الكثيرين من المقرّبين لرئيسها الحالي، على غرار مستشاره السياسي وظلّه الملازم لطفي زيتون الذي اختار العودة إلى لندن، منفاه الأول، والتزم الصمت المطبق، وفق ما كشف عنه قيادي بارز من الحركة لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى أن زيتون ليس الوحيد الذي التجأ إلى "الصمت التنظيمي".
ويطرح توقيت إعلان الغنوشي نيّته الانسحاب خلال ندوة الأحد أكثر من سؤال، فالمجتمعون في مدينة الحمامات من أبرز قيادات الحركة التاريخيين ومن حركات إسلامية جزائرية وسودانية ومغربية، التقوا لإعادة طرح السؤال المؤجل حول علاقة الجانب الدعوي الثقافي المجتمعي، بالسياسي والحزبي، وفق تصريح عضو مجلس شورى "النهضة" رضا ادريس، وتدارسوا موضوع الرؤية والهوية الفكرية والمنهج الأصولي للحركة، في مراجعة للورقة التأسيسية التي تم تقديمها سنة 1986 واستشراف رؤيا فكرية تجديدية شاملة للأعوام المقبلة.
وانطلق المجتمعون من تشخيص العلاقة بين الدعَوي والسياسي وتحليل الإشكاليات والنظر في إبعادها والاستراتيجيات المستقبلية لكيفية إدارة هذه المعادلة الصعبة أو "سبل تصريف المشروع" كما يسميه أبناء الحركة، وتباحثوا مسيرة النهضة تاريخياً، ونموها وتطورها مقارنة بالتجارب العربية الأخرى.
وأشار المشاركون إلى خطورة هذه الإشكالية لأنها تتعلق بالهوية الفكرية للحركة، وتبحث مجالات النقص أو القصور بالنظر إلى تغير السياقات التونسية والرسالة الجديدة للحركة بعد الثورة، وهو ما يستوجب اقتراحات تعديلية لنص 1986 الخاص بالرؤية الفكرية، حسب ما جاء على لسان إدريس.
كذلك أُثير خلال الندوة موضوع التحديات المستقبلية للمشروع الوطني والمشروع الإسلامي عموماً، والتشديد على أن تكون الإجابة عن تحديات واقعية مستجدة تتجه إلى تفعيل التمدّن في المجتمعات بديلاً عن العنف والتوحش.
ويمكن القول إن ندوة الحمامات ليست سوى بداية لفتح الأبواب والنوافذ أمام التساؤلات الهامة التي أجّلها المؤتمر السابق للحركة، والتي لم يعد من الممكن تأجيلها، فهل يحسمها المؤتمر المقبل؟