هل يعي أوباما ما يفعل؟
الذين يقولون إنهم يعرفون "استراتيجية أوباما" يدَّعون أنهم يعرفون، فلم تثبت فترتا أوباما الرئاسيتان وجود "استراتيجية"، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الانسحاب من بؤر التوتر والنزاع كذلك. بالطبع، يمكن أن تكون هذه استراتيجية، لو ترافقت مع "جوّ" سياسي يحيط بها، أو ينظِّر لها، وتبنى، على أساسها، السياسات، على غرار رئاسة بوش التي اتضح فيها الطموح الإمبراطوري الأميركي، كما لم يتضح من قبل. كان بوش محاطاً بمن لديهم "مانفيستو"، ومن يملكون أجندة سياسية محددة، وبمن يقدمون غطاءً نظرياً لسياسات بوش، الرئيس الأكثر "عِيِّاً" بين الرؤساء الأميركيين. لم يكن بوش يحتاج إلى "لسان"، لأن من هم جنبه يغنونه عن ذلك، ولكن، كان يحتاج العضلات، وهذه وُفِّرتْ له. يكفيه ديك تشيني. وقد استعرض بوش عضلاته، بعد الحادي عشر من سبتمبر، من دون رادع. عكسه، لدى أوباما لسان، وهذا أوصله إلى البيت الأبيض، وهو الذي جعل العالمين العربي والإسلامي يهللان له بعدما استخدمه، بمهارة فائقة، في جامعة القاهرة.
لم يشكل الانسحاب من بؤر التوتر والنزاع، وإحلال السياسة محل القوة في العلاقات الدولية استراتيجية فعلية، وعلى طول الخط، لأوباما الذي بدَّل الطائرات الحربية والطيارين بـ "درونز"، ومارس الاغتيال السياسي ضد المشتبه فيهم، بدل سوقهم إلى المحكمة، ونقض تعهده الانتخابي بإفراغ "غوانتانامو" من نزلائه، ولم يعمل بكلمة واحدة من "خطاب القاهرة".. وانحنى لأبغض رئيس وزراء إسرائيلي مذ حلَّت علينا الكارثة. هذا يعني أن حروب أميركا في العالم لم تتوقف في عهد أوباما، بل جعلها أقل كلفة على دافعي الضرائب الأميركيين.
وقد جاءت الثورات العربية، السورية خصوصاً، لتظهر انعدام البعد الإنساني والأخلاقي والحقوقي لإدارته، ولرئاسته، شخصياً، بوصفه يتحدَّر من الأقلية السوداء التي عرفت الاضطهاد والظلم. كان في وسع أوباما أن يوفر على السوريين معاناة ثلاثة أعوام ومئات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين وملايين المهجرين لو أنه اتخذ، مع حلفائه، موقفاً سياسياً وأخلاقياً أكثر صلابة مما فعل، ومن دون الحاجة إلى تدخل عسكري. فمن يصدقُ أن أميركا عديمة الحيلة، على صعيد السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، ولا تتوفر على أدوات ضغط، تمكِّنها من انتزاع ما تريد، من دون الإيعاز لحاملات الطائرات بالتحرك؟ ترك أوباما الشعب السوري يغرق بالدم والدمار، وعندما حرَّك حاملات طائراته، بعد لأيٍّ، فكان من أجل انتزاع الكيماوي الذي قد يؤثر على إسرائيل، وترك ما يؤثر على الشعب السوري في أيدي النظام.
.. لا يخلو كلامنا، نحن الذين نعادي السياسات الإمبريالية الأميركية في أي مكان، من تناقض. نحملُ على السياسات الأميركية حيناً، ونطالب الإدارة الأميركية بالتدخل في قضية ما حيناً آخر! بيد أنه تناقض ممكن حلَّه، أو إيضاحه، بالقول إن الولايات المتحدة، بوصفها عضواً في أعلى هيئة دولية مسؤولة عن الأمن والسلام في العالم، مطالبة بأن تنهض بهذه المسؤولية، وهذا واجب، وليس منَّةً أو تحسّناً. وكما نعرف، لم تقم واشنطن بواجبها، على هذا الصعيد، إلا إذا دعتها المصلحة الأميركية الفاقعة إلى ذلك.
وبالعودة إلى ما نقرأه اليوم عن "استراتيجية أوباما" ضد داعش، هل يمكن لنا أن نعتبر تحرك الرئيس الأميركي هو، فعلاً، لمنع "داعش" من التمدد أكثر في المنطقة، أم أنه لخلق واقع سياسي جديد في المنطقة بأسرها، لن تتضح معالمه إلا بعد فترة طويلة، فيبدو أن فكرة الكرة المتدحرجة لم تعد تكفي لخلق الواقع المنشود، إذ لا بدَّ من التدخل المباشر لإيجاده. فما هو الواقع السياسي المنشود في المنطقة؟ هنا يتلعثم العارفون بـ "استراتيجية أوباما"، ولا يحيرون جواباً واضحاً، لأن لا أحد يعرف ما الذي ستنتج عنه هذه الحرب الجديدة، غريبة الأطوار، ولا الذين "خططوا" لها، أو الذين يرمون فيها حطباً.