هل من طريق سلمي إلى التغيير؟

02 سبتمبر 2020
+ الخط -

بعد مرور عقد تقريبا على انطلاق ثورات الربيع العربي، ما زال السؤال مطروحا بقوة بشأن ما إذا كان الوصول إلى دولة ديمقراطية، يتمتع فيها الناس بالحقوق والحريات ومستوى معقول من الحياة الكريمة، ممكنا بطريقة غير عنيفة، في ظل وجود بنى سلطوية تبدو عصيةً على الإصلاح. حين طرح هذا السؤال أول مرة، كان الشارع العربي قد انفجر في وجه نظم حكم لم يكن يعمل فيها إلا أذرعها الأمنية، في حين فشلت في تأدية كل وظائفها الأخرى، ابتداء من الدفاع عن مصالح شعوبها في العلاقة مع الخارج، وصولا إلى الإخفاق في تحقيق التنمية الوطنية، إلى توفير حد أدنى من العدالة الاجتماعية، وانتهاء باحترام الحقوق والحريات العامة والفردية.

كان الانفجار مدفوعا بعدم وجود مؤسّساتٍ تكفل التعبير عن هموم الناس ومشاغلهم من داخل النظام (برلمانات، أحزاب، نقابات، جمعيات أهلية وغيرها من أشكال العمل السياسي المنظم). بالنتيجة، أخذت الناس الأمر بأيديها، وأصبح الشارع مكانا للتعبير عن الحقوق والمطالب، وساحة للمواجهة بين المجتمع والسلطة. كان الثمن باهظا، فقد تحوّلت ثلاث انتفاضات عربية إلى حروب وكالة وصراعات أهلية دمرت نسيج المجتمع، وهدّدت وجود الدولة وتماسكها (سورية واليمن وليبيا). وفيما نجت مصر من هذا المصير إلا أن الأوضاع فيها ارتكست إلى حال أسوأ مما كانت عليه في ظل النظام السابق، سواء على صعيد الحريات أو على صعيد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

في جميع الأحوال، برز تيار (فكري - سياسي) تمثلت مقاربته الرئيسة في تحميل الثورات مسؤولية جعل الأوضاع في أكثر الحالات العربية المذكورة أكثر سوءا مما كانت عليه قبلاً. وبغض النظر عن رأينا بهذه المقاربة، لا بد من ملاحظة أنها ليست خاصة بالثورات العربية، فسؤال "هل هناك طريق سلمي إلى الحداثة؟" تكرّر مع كل ثورة تقريبا عبر التاريخ الإنساني المعاصر، نظرا إلى الأثمان الإنسانية الباهظة التي ترتبت عليها، لذلك أخذه المفكرون والباحثون بمنتهى الجدّية، وحاولوا الإجابة عنه. وفي ذلك برز تياران رئيسان: يرى الأول، كما فرد هاليداي، في كتابه "الثوة والسياسية الدولية"، أنه لا يوجد في تاريخ تطور الدول، ولا في تاريخ العلاقات الدولية، ما تسمى "طريقا سلميا إلى الحداثة"، وأن الدول الديمقراطية الحديثة التي تعيش استقرارًا ورخاءً الآن إنما وصلت إلى هنا بعد قرون من الصراعات والثورات والحروب. ويضرب على ذلك أمثلة ثلاثة: الثورة الإنكليزية التي بدأت بأزمة "البرلمان الطويل" عام 1641، ولم تترسّخ الديمقراطية بعدها حتى الثورة الدستورية (1688)، والتي انتهت بإعلان وثيقة الحقوق التي وضعت البرلمان فوق الملك. أما الثورة الفرنسية (1789)، فقد كانت من أعنف الثورات في التاريخ المعاصر، وهي لم تنتصر فعليا إلى ما بعد إعلان الجمهورية الثالثة (1871) عقب سقوط حكم نابليون الثالث في حرب السبعين مع ألمانيا. الولايات المتحدة مرّت بدورها بسلسلة طويلة من التغيرات العنيفة، بما فيها حرب أهلية مدمرة (1861-1865) وصولا إلى حركة الحقوق المدنية التي نجحت في تحقيق المساواة بين الأعراق فقط في ستينيات القرن العشرين.

يرى التيار الثاني، في المقابل، أنه من الممكن تحقيق التغيير من دون الحاجة إلى ثورات، تتسم غالبا بالعنف، وأن أكثر التحولات التي شهدتها دول أوروبا الغربية مثلا، وأكثرها عمقا، لم تحصل نتيجة ثورات، بل نتيجة مسار إصلاحي تدريجي طويل، حصلت خلاله تسويات مضنية بين مختلف القوى المجتمعية، حتى تم التوصل إلى توافقات وتفاهمات كبرى على قواعد اللعبة السياسية، وطرائق الحكم والإدارة، والدليل على ذلك أن أوروبا الغربية لم تشهد ثوراتٍ منذ نحو 170 عاما، أي منذ ثورات 1848 الفاشلة.

بغض النظر عن هذا الخلاف، الواضح أن الناس لا يميلون إلى الثورة عندما يشعرون أن هناك تقدما ولو بطيئا في حياتهم، وأن حكوماتهم تسمح بدرجة من الانفتاح وحرية التعبير. لهذا السبب، كانت بريطانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي تجاوزتها موجة ثورات 1848، بسبب وجود برلمان وتصويت شعبي، تم إقراره بموجب قانون 1832. الواقع أن الناس تثور فقط عندما يبدو لها أن ثمن الثورة أقل من ثمن عدم الثورة، ما يترك للأنظمة الحاكمة هوامش للاختيار.