هل كان هيتشكوك مراوغًا بارعًا؟ (2 - 3)

28 يناير 2017
(المخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك، الصورة: Popperfoto)
+ الخط -

قال جيمس ستيوارت: "لم يسبق لي أن عملت مع أي شخص، كان أكثر مراعاة وأكثر إفادة وأكثر فهمًا للعناصر الفاعلة في المشهد عندما عملت مع هيتشكوك"، وقالت إنغريد بيرغمان ذات مرّة: "كل ممثل عمل فعلًا مع هيتشكوك سيرغب بالعمل معه مجددًا".

وطبعًا هناك القليل من الأشخاص الذين لا يتّفقون مع وجهات النظر أعلاه، لأن هيتشكوك لم يحب الارتجال في الأفلام ولم يحب أن يفعل الأشياء حسب المزاج، وعليهِ فإن عمله مع بعض الممثلين لم يسر بشكل جيّد مثل تشارلز لوتون في فيلم Jamaica Inn، وكيم نوفاك في فيلم Vertigo. ولم يكن هيتشكوك كذلك صبورًا مع الممثلين المنهجيين (الأسلوبيين)، الذي كانوا يسألون الكثير من الأسئلة مثل مونتغمري كليف في فيلم، Confess وبول نيومان في فيلم Torn Curtain - See more at.



وعلى الرغم من ذلك، فإن تجارب هيتشكوك مع الممثلين بشكلٍ عام هي تجارب غنية، والعديد من العروض الجميلة تشهد على ذلك. ولم يكن هناك ذاك الصدع الذي يكون عادةً بين الممثلين والمخرجين. كان الممثلون قريبين جدًا من هيتشكوك في العمل، ولو تعقّبت الأمر في سيرة هيتشكوك، فلن تجد شيئًا.

كان على هيتشكوك في أسلوبه وقبل كل شيء، أن يستخدم في أعمالهِ تقنياتٍ يتجاوز فيها أقرانه المخرجين ويسترشد بها من يخلفه. وتجد الهواة عادةُ مقيّدين في مديحهم لأعمال هيتشكوك، فهم يظنون أن التقنيات هي "المقاطع العبقرية" في أعمالهِ والقائمة التي يملكونها عن أفضل تأثيرات هيتشكوك المستخدمة (دش الاستحمام أو طائرة رش المحاصيل، أو كوب الحليب المضيء) قائمة قصيرة جدًا.

وفعليًا هذه المشاهد لا تمثل سوى محض نقاط مقطوعة على خط إبداع هيتشكوك الطويل. وعلى سبيل المثال، فقد حصلت مطاردة في المتحف البريطاني في فيلم Blackmail، وقد تم تمثيلها كاملة في الأستوديو باستخدام المرايا، وفي فيلم Spellbound، كانت هناك لقطة يتمّ تصويرها بعيني انتحاري مسلحٍ يحمل في يدهِ مسدسًا يقوم بتوجيهه ببطء نحو الكاميرا وبعد ذلك يطلق عليها (الكاميرا) الرصاص. يقول هيتشكوك: "انتهى بي الأمر إلى أن أستخدم يدًا عملاقة، وسلاحًا أكبر بأربع مرات من السلاح الطبيعي".

اللقطة الذاتية المذهلة في فيلم Vertigo، و"الأغاني والمقاطع الموسيقية" في فيلم The Birds، وكل المؤثرات الصوتية التي فيه (بما فيها موسيقى الذروة "الصمت"). وأيضًا نزول العربة إلى أسفل الدرج وخروجها إلى الشارع في فيلم Frenzy، والعديد العديد من المشاهد التي تعبّر عن عظمة وإبداع ألفريد هيتشكوك.

وكحرفيٍ ماهر في حرفتهِ، لم يكن لألفريد هيتشكوك نظير فيما يقدّمه. لم يكن له نظير يعرف أدواته التي يستخدمها مثله، لدرجة أنه لا ينظر إلى الكاميرا أثناء التصوير، لأنها يعرف كيف من شأن كل مشهد ملتقط أن يخرج للعامة لاحقًا.

ورغم كل ما قلناه أو قيل عن التقنية وهيتشكوك، إلا أن التقنية نفسها ينطوي استخدامها على الكثير من البراعة، وهؤلاء الهوّاة لا يتجاهلون مآثر تقنيات هيتشكوك فقط، بل يقزّمون من إنجازاته العظيمة حين يمجّدون هذه المآثر وهذه المقاطع ويخرّجونها على أنها عبقرية هندسية. يُعجَب الهواة بقدرة هيتشكوك على استخدام أدواتهِ وجمهوره في أعماله بنفس القدر، وبالتالي، فإن مديح أفلامهِ على أنها "انتصارات فارغة"، سيجعل مما يقوم بهِ متوقعًا بالنسبة لـ "سيّد التشويق". ولكن لماذا؟ لماذا، إذا كنت تعتبر أن هيتشكوك كان مراوغًا بارعًا؟ والكثير من أعماله طبعًا تؤيّد ذلك، مثل (Lifeboat وSaboteur وForeign Correspondent). هذا كله يقودنا إلى أنه قد كان على "سيّد التشويق" أن يعمل جيدًا على الدعاية بقدر عملهِ على الإخراج، مثلما عمل فرانك كابرا وجون فورد، ولكن رؤية هيتشكوك في أفلامه لم يكن فيها أيّ لبس غير مفهوم لتحتاج إلى الدعاية.

تبقى لدينا العديد من الأسئلة التي تدور وبحاجة إلى إجابة، مثل: لماذا أصرّ هيتشكوك على أنه يجب مشاهدة الفيلم أكثر من مرّة إذا كان كل ما يريده من مشاهديه هو الصراخ والارتعاد؟ هل اعتمد هيتشكوك قبلًا على الحيل في أفلامه؟ أو هل أنه قد استخدم بعض التقنيات كما يستخدم السلوكيون الأقطاب الكهربائية؟ وعلى النقيض تمامًا، فإن هذه التقنية ورغم أنها مذهلة إلا أنها كانت أكثر من مجرّد تقنية عنده. يقول هيتشكوك: "أنا ضدّ استخدام البراعة الفنية الراقية فقط لأنها كذلك، يجب أن يكون هناك أكثر من مجرّد إبداع فني. يجب على التقنية أن تثري العمل وتقوّيه". وطبعًا، فإن هذا القول المأثور هو ثمرة خبرة طويلة من العمل في ذات المجال. وكلما درسنا فن هيتشكوك بعناية أكثر أصبح ممتعًا ومشوقًا أكثر لإكمال هذه الدراسة، لأن هذه التقنيات ستكون دائمًا عبقرية وموحية ومهمّة لعدّة أسباب وكل صورها متخيّلة وموحّدة بدقّة عالية. هذه التقنيات باختصار هي نتاج عمل رجل أقلّ ما يقال عنه بأنه "السيد".

وبما أننا في معرض الاطلاع على "النعوت" التي أطلقها الآخرون على هيتشكوك، فإن علينا أن نستكشف أمزجة هيتشكوك الفنيّة الأخرى التي "أتقنها". فقد كان بارعًا في الكوميديا وكانت له لمسته الخاصّة بين الضوء والظل في الرومانسية وكان أيضًا ساخرًا متمكنًا. يمكن لأي شخص أن يقوم بسرد وتصنيف قدرات أي فنان (كما قمت أنا أعلاه)، ولكن مثل هذه الأمور يقوم بها الهوّاة وكتاب الأعمدة عادة، تتطلب عبقرية هيتشكوك نوعًا آخر أكثر تقديرًا. عبقريته التي تسبق الانتقادات السينمائية عصرًا.

لا يوجد أي تصنيف يمكن أن نضع هيتشكوك تحته ويفيه حقّ عبقريته، فقد أثبت أسلوبه وتقنياته المستخدمة بأنه إنسان لا يضاهى. ومن بين كل المحاولات التكريمية أو الساخرة لتقليد هيتشكوك من قِبل تروفو، وكلود شابرولوستانلي، دونينوميل بروكسوبريان دي بالما وغيرهم، لم يستطع أي منهم أن يضاهي جمال وإبداع المصدر. لم يستطع أي مخرج أن يبلغ تلك الكثافة الغرائبية وذلك الجو من اكتشاف الغموض، الذي يعطي لأعمال هيتشكوك قوّة عاطفية تزيد أكثر وأكثر كلّما تعوّدت على أفلامه.

المساهمون