أسئلة كثيرة تبدو، في ظاهرها، منهجية، لكنها في الواقع تعكس تعصباتنا وتحيزاتنا، وتظهر مواقفنا تجاه ما نراه من أحداث جسام، وتقلبات كبيرةٍ تحدث بين عشية وضحاها، ومن هذه الأسئلة، على سبيل المثال: هل نسمي ما جرى ربيعاً عربياً؟ وكأننا نستذكر ما حفظناه من قصائد فحول الشعراء عن الربيع الطلق الذي يختال ضاحكاً من الحسن، ونتساءل كيف يكون ما نراه من بشاعةٍ حسناً وربيعاً؟ وهل يشبه ما نراه في أوطاننا ما سمي يوماً ما في القرن الماضي ربيع براغ، والذي انتهى بكارثة؟
وسؤال آخر يخطر على البال: ألم يكن من الأفضل لو أن الأنظمة العربية التي ثرنا عليها بقيت على حالها، ولم يجرِ ما جرى من ذبح وتشريد واقتلاع ولجوء في مشارق الأرض ومغاربها، ودمار وضياع أجيال وتبديد ثروات؟ أما كان الأفضل لو أنّ الربيع العربي لم يبدأ بتونس أو امتد إلى مصر؟ ألم تعد الأنظمة نفسها بصورة أخرى، وبوجوه جديدة تذكّرنا أن العصير هو نفسه، وإن اختلفت الزجاجة التي عبئت فيها؟ أو لم يكن حال البلدين الآن أفضل مما هما عليه؟
وينطبق السؤال نفسه على أنظمة علي عبدالله صالح في اليمن والقذافي في ليبيا والأسد في سورية، وكانوا كلهم جميعاً من جبلّةٍ واحدة، لا يفترق الواحد عن الآخر، من حيث الديكتاتورية، وعدم الاستفادة من الإمكانات المتاحة فيها؟
وهل كان من الممكن قبل ذلك دفع (20-30) بليون دولار إلى صدام حسين، مما قد يثنيه عن احتلال الكويت بقواته، ما كسر ظهر دفاع الخليج أمام إيران؟
أسئلة كثيرة كلها ذات طبيعة استاتيكية، نفترض أن الأمور، في ظل تلك الأنظمة، كانت ستبقى على حالها. وقد يقول قائل إن بقاء تلك الأنظمة، من دون تحدٍّ من الشعوب، كان سينطوي على تضحيات وخسائر أكبر بكثير مما جرى.
وقد يقول بعض آخر إن ما جرى ليس إلا مثالاً على صحة نظرية "المرجئة"، فالفتنة أشد من القتل. وما جرى ليس ربيعاً بل فتنة كبرى، أو فتنة ثالثة، إذا حسبنا ما قاله طه حسين عن الفتنتين الكبريين في عهد الخليفتين، عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما؟
تعكس هذه الأسئلة الجدلية مواقف الناس مما جرى.. فبعضهم يرى أنه ما كان بالإمكان تفادي تلك الثورات والأحداث، وآخرون يرون فيها مؤامرةً على الأمة، حتى تستنزف قواها، وتقسم، وتبقى طوائف وشيعاً متفرقة. ولكن التحليل يجب أن يثير بعض التساؤلات الموضوعية، بقصد الوصول إلى نتائج علمية، تعين على رسم تصور مستقبلي، وصياغة دروس مستفادة.
هل كان هنالك عدالة في الوطن العربي؟ بمعنى، هل تكافأت الفرص أمام الناس جميعاً، أم أن غالبية المواطنين عاشوا، وقد تحدّدت فرصهم للتعلم والتدريب والحصول على وظيفة كريمة؟ هل تساوت فرص الناس، إذا توفرت لهم الكفاءة والقدرة والإرادة لأداء عمل، أم أنهم خسروا الفرص لأشخاص أقل كفاءة، ولكن أكثر حظوة وأعز مكانة لدى صانع القرار؟
كل مقاييس العدالة وتكافؤ الفرص لم تدل على غيابها في بلدان عربية كثيرة، خصوصاً التي قامت فيها الثورات، ولعل من الطريف تذكّر الجناس بين كلمتي "ثروة" و"ثورة"، فسوء توزيع الأولى يؤدي إلى الثانية.
وعند الحديث عن العلاقة بين الأجيال: فهل كان جيل الشباب مهمشاً ومغيباً عن العمل، وصنع القرار، وكان متحملاً لأعباء أكثر بكثير من الفرص المتاحة له. انظر إلى الدول ذات المديونية التي تنامت في دولٍ كثيرة. إنها عبء يُمارسه جيل الآباء ويورّثه إلى جيل الأبناء. وانظر إلى فرص البطالة، فقد بلغت النسب بين الشباب في بلدان الوطن العربي 10% في أدناها و40 % في أقصاها، ومعظمها في صفوف الشباب؟ وهنا، ترى أن جيل الشباب هو الذي يعاني، بينما يتمتع آباؤهم وأجدادهم بمعظم الوظائف التي أفرزها اقتصاد دولهم.
وكذلك، بقيت قوة الشباب وتأثيرهم عبر المشاركة في صنع القرار، والسياسات، والمشروعات محدودة، علماً أن الشباب هم الأقدر على الإبداع والتجديد. ومما يحزن في هذا الأمر أن الشباب أكثر تعليماً، وأكثر تحرّراً في فكرهم، وهم المتوقع منهم، بعد هذا كله أن يكونوا الجنود في حربٍ لا يشعلونها أو يسببونها، وهم المطلوب منهم السكوت والطاعة، لأنهم ليسوا أصحاب خبرة وتجربة وحكمة.
فهل تعلمنا ووعينا الدرس، وبدأنا العمل على اشتمال الشباب في سوق العمل، والسياسة، والتشريع والاستثمار والاهتمام، أم أننا سنبقي نظرتنا نحوهم محصورة في الانتقائية لبعضهم، وإهمال الأكثرية وتحييدها؟
والأمر الثاني الذي يجب أن نتعلمه أن نحترم الرأي الآخر، وإن بدا غريباً عن أسلوبنا وتفكيرنا ومفرداتنا؟ فالشباب يتعرضون، اليوم، لمؤثرات كثيرة. ومعظمهم يقضي حياةً لا يعرف أهله أو المسؤول عنهم شيئاً كثيراً عنها. ولذلك، ما يشكل فكرهم وتوجهاتهم ليس ما نعلمهم أو ندرسهم، أو نعظهم به، ولكن ما يقرؤونه ويرونه ويعيشونه مع آخرين من كل أنحاء الدنيا؟ منظورهم للعالم غير منظور آبائهم. فالعالم كله مفتوح لهم، فهل سنجد الطريقة للحديث معهم والتواصل بهم، أم أننا سنفردهم عنا إفراد البعير الأجرب؟ ليست الغربة فقط في جهل اللغة التي يتحدث بها الآباء، بل الغربة عندما لا نجد موضوعاً نتحدث معهم فيه.
ربما ما جرى في الوطن العربي بدأ بالشباب الذين كان لهم علينا مظلماتٌ لم تسمع، وفرص لم تقدم، وأفكار لم تحترم. فثاروا علينا لا ليغيّروا الأنظمة، ولكن ليصلحوها، وليس بهدف تولي زمام الأمور، بل بهدف لفت الأنظار إليهم، ليقولوا لنا "نحن موجودون، فعوا أيها الكبار واسمعوا....".
ولكن ديناميكية الربيع لم تتوقف عند هذه المطالب المعقولة، فبعد سقوط الأنظمة الأربعة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبعد فشل الإدارة السورية في معالجة الموقف، بل صعدته وزادته توتراً وانفعالاً، رأينا كيف ظهرت قوى جديدة على الساحة، لتحل مكان الشباب، وتأخذ زمام المبادرة منهم. ولكن الأزمة اشتدت، وكان ما كان.
إذا كنا نريد أن نخلق ولو شيئاً جميلاً واحداً من هذه الدروس، علينا أن نعيد بناء العلاقة بين الحاكمين وشعوبهم، بحيث تكون أكثر احتراماً وتقديراً متبادلاً. ولم تعد الأمور مضمونةً لأحد، إلا إذا حفظ جبهته الداخلية، وأحب شعبه وتفاعل معه؟ وما نراه الآن من نتائج مخيب للأمل في معظمه.
هنالك بالطبع استثناءات متميزة في تونس والمغرب، والآن الجزائر وفي الأردن، وهنالك دول بقيت لها خصوصيتها، مثل معظم دول الخليج العربي. أما باقي الدول فما تزال المعارك فيها طويلة المدى.
اقرأ أيضا:
الشباب والشياب في الوطن العربي
توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي
وسؤال آخر يخطر على البال: ألم يكن من الأفضل لو أن الأنظمة العربية التي ثرنا عليها بقيت على حالها، ولم يجرِ ما جرى من ذبح وتشريد واقتلاع ولجوء في مشارق الأرض ومغاربها، ودمار وضياع أجيال وتبديد ثروات؟ أما كان الأفضل لو أنّ الربيع العربي لم يبدأ بتونس أو امتد إلى مصر؟ ألم تعد الأنظمة نفسها بصورة أخرى، وبوجوه جديدة تذكّرنا أن العصير هو نفسه، وإن اختلفت الزجاجة التي عبئت فيها؟ أو لم يكن حال البلدين الآن أفضل مما هما عليه؟
وينطبق السؤال نفسه على أنظمة علي عبدالله صالح في اليمن والقذافي في ليبيا والأسد في سورية، وكانوا كلهم جميعاً من جبلّةٍ واحدة، لا يفترق الواحد عن الآخر، من حيث الديكتاتورية، وعدم الاستفادة من الإمكانات المتاحة فيها؟
وهل كان من الممكن قبل ذلك دفع (20-30) بليون دولار إلى صدام حسين، مما قد يثنيه عن احتلال الكويت بقواته، ما كسر ظهر دفاع الخليج أمام إيران؟
أسئلة كثيرة كلها ذات طبيعة استاتيكية، نفترض أن الأمور، في ظل تلك الأنظمة، كانت ستبقى على حالها. وقد يقول قائل إن بقاء تلك الأنظمة، من دون تحدٍّ من الشعوب، كان سينطوي على تضحيات وخسائر أكبر بكثير مما جرى.
وقد يقول بعض آخر إن ما جرى ليس إلا مثالاً على صحة نظرية "المرجئة"، فالفتنة أشد من القتل. وما جرى ليس ربيعاً بل فتنة كبرى، أو فتنة ثالثة، إذا حسبنا ما قاله طه حسين عن الفتنتين الكبريين في عهد الخليفتين، عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما؟
تعكس هذه الأسئلة الجدلية مواقف الناس مما جرى.. فبعضهم يرى أنه ما كان بالإمكان تفادي تلك الثورات والأحداث، وآخرون يرون فيها مؤامرةً على الأمة، حتى تستنزف قواها، وتقسم، وتبقى طوائف وشيعاً متفرقة. ولكن التحليل يجب أن يثير بعض التساؤلات الموضوعية، بقصد الوصول إلى نتائج علمية، تعين على رسم تصور مستقبلي، وصياغة دروس مستفادة.
هل كان هنالك عدالة في الوطن العربي؟ بمعنى، هل تكافأت الفرص أمام الناس جميعاً، أم أن غالبية المواطنين عاشوا، وقد تحدّدت فرصهم للتعلم والتدريب والحصول على وظيفة كريمة؟ هل تساوت فرص الناس، إذا توفرت لهم الكفاءة والقدرة والإرادة لأداء عمل، أم أنهم خسروا الفرص لأشخاص أقل كفاءة، ولكن أكثر حظوة وأعز مكانة لدى صانع القرار؟
كل مقاييس العدالة وتكافؤ الفرص لم تدل على غيابها في بلدان عربية كثيرة، خصوصاً التي قامت فيها الثورات، ولعل من الطريف تذكّر الجناس بين كلمتي "ثروة" و"ثورة"، فسوء توزيع الأولى يؤدي إلى الثانية.
وعند الحديث عن العلاقة بين الأجيال: فهل كان جيل الشباب مهمشاً ومغيباً عن العمل، وصنع القرار، وكان متحملاً لأعباء أكثر بكثير من الفرص المتاحة له. انظر إلى الدول ذات المديونية التي تنامت في دولٍ كثيرة. إنها عبء يُمارسه جيل الآباء ويورّثه إلى جيل الأبناء. وانظر إلى فرص البطالة، فقد بلغت النسب بين الشباب في بلدان الوطن العربي 10% في أدناها و40 % في أقصاها، ومعظمها في صفوف الشباب؟ وهنا، ترى أن جيل الشباب هو الذي يعاني، بينما يتمتع آباؤهم وأجدادهم بمعظم الوظائف التي أفرزها اقتصاد دولهم.
وكذلك، بقيت قوة الشباب وتأثيرهم عبر المشاركة في صنع القرار، والسياسات، والمشروعات محدودة، علماً أن الشباب هم الأقدر على الإبداع والتجديد. ومما يحزن في هذا الأمر أن الشباب أكثر تعليماً، وأكثر تحرّراً في فكرهم، وهم المتوقع منهم، بعد هذا كله أن يكونوا الجنود في حربٍ لا يشعلونها أو يسببونها، وهم المطلوب منهم السكوت والطاعة، لأنهم ليسوا أصحاب خبرة وتجربة وحكمة.
فهل تعلمنا ووعينا الدرس، وبدأنا العمل على اشتمال الشباب في سوق العمل، والسياسة، والتشريع والاستثمار والاهتمام، أم أننا سنبقي نظرتنا نحوهم محصورة في الانتقائية لبعضهم، وإهمال الأكثرية وتحييدها؟
والأمر الثاني الذي يجب أن نتعلمه أن نحترم الرأي الآخر، وإن بدا غريباً عن أسلوبنا وتفكيرنا ومفرداتنا؟ فالشباب يتعرضون، اليوم، لمؤثرات كثيرة. ومعظمهم يقضي حياةً لا يعرف أهله أو المسؤول عنهم شيئاً كثيراً عنها. ولذلك، ما يشكل فكرهم وتوجهاتهم ليس ما نعلمهم أو ندرسهم، أو نعظهم به، ولكن ما يقرؤونه ويرونه ويعيشونه مع آخرين من كل أنحاء الدنيا؟ منظورهم للعالم غير منظور آبائهم. فالعالم كله مفتوح لهم، فهل سنجد الطريقة للحديث معهم والتواصل بهم، أم أننا سنفردهم عنا إفراد البعير الأجرب؟ ليست الغربة فقط في جهل اللغة التي يتحدث بها الآباء، بل الغربة عندما لا نجد موضوعاً نتحدث معهم فيه.
ربما ما جرى في الوطن العربي بدأ بالشباب الذين كان لهم علينا مظلماتٌ لم تسمع، وفرص لم تقدم، وأفكار لم تحترم. فثاروا علينا لا ليغيّروا الأنظمة، ولكن ليصلحوها، وليس بهدف تولي زمام الأمور، بل بهدف لفت الأنظار إليهم، ليقولوا لنا "نحن موجودون، فعوا أيها الكبار واسمعوا....".
ولكن ديناميكية الربيع لم تتوقف عند هذه المطالب المعقولة، فبعد سقوط الأنظمة الأربعة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبعد فشل الإدارة السورية في معالجة الموقف، بل صعدته وزادته توتراً وانفعالاً، رأينا كيف ظهرت قوى جديدة على الساحة، لتحل مكان الشباب، وتأخذ زمام المبادرة منهم. ولكن الأزمة اشتدت، وكان ما كان.
إذا كنا نريد أن نخلق ولو شيئاً جميلاً واحداً من هذه الدروس، علينا أن نعيد بناء العلاقة بين الحاكمين وشعوبهم، بحيث تكون أكثر احتراماً وتقديراً متبادلاً. ولم تعد الأمور مضمونةً لأحد، إلا إذا حفظ جبهته الداخلية، وأحب شعبه وتفاعل معه؟ وما نراه الآن من نتائج مخيب للأمل في معظمه.
هنالك بالطبع استثناءات متميزة في تونس والمغرب، والآن الجزائر وفي الأردن، وهنالك دول بقيت لها خصوصيتها، مثل معظم دول الخليج العربي. أما باقي الدول فما تزال المعارك فيها طويلة المدى.
اقرأ أيضا:
الشباب والشياب في الوطن العربي
توزيع الدخل والثروة في الوطن العربي