ولم ينه رئيس الوزراء، الحبيب الصيد، ردوده أمام مجلس نواب الشعب، يوم الجمعة الماضي حتى جرى الإعلان عن حظر للتجوال في مدينة دوز جنوب البلاد، بالتزامن مع إحراق مركز الدرك فيها. وجاءت هذه التطورات لتؤكد أنّ ما يحدث في الجنوب يستوجب طرحاً سياسياً جديداً وخطاباً مختلفاً، يمكنه أن يبعث برسائل مطمئنة للناس التي انتفضت بعد أن أعياها الانتظار وطال صبرها مع الحكومات المتعاقبة، وكانت تنتظر مع بداية الاستقرار السياسي وانتهاء "مرحلة المؤقت" أن ترى بعض الضوء في آخر النفق. وفيما يبدو أن الناس مطالبة بانتظار أطول وصبر أكثر، إلا أنها غير مستعدة له بحسب زلزال الاحتجاجات التي تعرفه تونس هذه الأيام.
ويترافق كل ذلك مع مؤشرات اقتصادية سلبية، تتمثل في تراجع نسبة النمو وشُحّ الموارد المالية للدولة، وتدحرج مستوى الانتاج إلى معدلات مخيفة في بعض القطاعات. وعلى الرغم من أن هذه العوامل الاقتصادية تكبّل الحكومة في تحقيق إنجاز تطور مهم، فإن الحل يبدو سياسياّ بامتياز، لكنه في الوقت نفسه غير متوفر حالياً وفق المعطيات التي تحيط بعلاقة الصيد ببقية الأحزاب، سواء داخل الائتلاف الحاكم أو في صفوف المعارضة.
ولم يخف الصيد إدراكه للمشكلة السياسية عندما أشار في حديثه مع النواب إلى أنّ "تقييم عمل الحكومة وسهام الانتقاد وحتى الحكم على النوايا، بدأ منذ الأسبوع الأول من تشكيلها"، في رسالة صريحة إلى التونسيين بأن المعارضة بدأت منذ اليوم الأول في العمل على تعطيل الحكومة وحتى إسقاطها.
اقرأ أيضاً: الجنوب التونسي: حرمان وتهميش يغذيان انتفاضة السكان
رسالة تزامنت مع تسريب وثيقة داخل الجبهة الشعبية اليسارية، أبرز أحزاب المعارضة، تشير إلى تفاصيل العمل على إسقاط الحكومة. وعلى الرغم من أنّ الجبهة لم تنكر أنّ الوثيقة هي بالفعل لأحد مكوناتها، فقد أكدت أنها لم تتبنها وأنها مجرد مقترحات داخلية عادية تتم في العمل السياسي.
في موازاة ذلك، اعتبر زعيم الجبهة، حمة الهمامي، في تصريح صحافي، أنّ بعض السياسيين والإعلاميين يتعاملون بطريقة غير منصفة تجاه الجبهة الشعبية، مذكّراً بأنه "عندما أراد (الرئيس الحالي) الباجي قايد السبسي في 2013 إسقاط حكومة الترويكا والمجلس التأسيسي، تحول إلى بطل، لكننا اليوم عندما ننتقد حكومة الصيد نصبح متآمرين"، مؤكداً أنّ "أطرافاّ في النهضة ونداء تونس تريد ضرب أحزاب الجبهة وتعمل على خلق الفتنة بينها".
وإذا كان من المفهوم والمنطقي أن تعمل المعارضة على انتقاد الحكومة وإسقاطها أيضاً، وهو المتداول في كل الديمقراطيات، فإنه من غير المقبول ألا تنتبه الحكومة إلى تحالفها وبيتها الداخلي الذي يبدو مهتزاً ومليئاً بطموحات حزبية داخلية لا يعنيها نجاح التحالف بقدر ما يهمها نجاحها الشخصي.
وبدا غريباً للغاية أن تتصدر حركة النهضة تقريباً وحدها، مشهد الدفاع الميداني والسياسي عن الحكومة التي بدت يتيمة في مواجهة الإعصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تواجهه. وانتقل زعيم الحركة، راشد الغنوشي، إلى محافظات الجنوب المتوترة، قبل أيام، وتوجه الى الأمانة العامة لنقابة العمال، وتجول مع أبرز قياداتها بين وسائل الإعلام، في محاولة للتنبيه لخطر ما يحدث.
أما في ما يتعلق بباقي أطراف التحالف الحكومي، فيحيط الصمت المطبق بالاتحاد الوطني الحر. كذلك يغيب حزب "نداء تونس" وقياداته التي لم يعد يهمها غير خلافاتها الداخلية، فيما يواصل حزب "آفاق تونس" لسعاته السياسية لمكونات التحالف بين الحين والآخر، والتي كان آخرها اشارته الصريحة إلى أن حركة النهضة "ترفض أن يكون القضاء مستقلا بالكامل"، في تعليقه على جدل قانون المجلس الأعلى للقضاء الذي صوت الحزب ضده في المجلس، وأخرج الخلافات الداخلية للتحالف الحكومي إلى العلن.
من جهته، رد المستشار السياسي للغنوشي، لطفي زيتون، على زعيم حزب "آفاق تونس"، ياسين إبراهيم، قائلاً إن "من دخلوا السياسة حديثاً، ينبغي أن يتعلموا ضبط النفس قبل التصاريح الصحافية".
وهو ما يعكس بشكل صريح هشاشة التحالف الحكومي الذي لم تفلح تنسيقية أحزابه المتأخرة في رأب هذا الصدع الذي يبدو أنه آخذ في الاتساع. كما يبدو أن الطريق نحو القطيعة ماضية لا محالة. وكانت مجموعات من "نداء تونس" طالبت، قبل أن يُكْتَم صوتها، بإخراج حزب "آفاق تونس" من التحالف الحكومي، لكن الأصوات الهادئة فضلت عدم تقديم هدية إضافية للمعارضة القوية في الشارع على الرغم كل الأصوات التي كانت تتحدث عن ضعفها في البداية.
اقرأ أيضاً: التحالف الحكومي في تونس مهدد بالانفراط
غير أن المتأمل في علاقة الحكومة بالتونسيين يقرّ بأنّ هناك مشكلة تواصل حقيقية، يمثّل رئيس الحكومة إحدى حلقاتها. ووفقاً لمتابعين، فإن الصيد كثير العمل ودقيق ويبذل جهوداً كبيرة، لكنه يفشل في التواصل مع التونسيين في كل ظهور إعلامي له. وهو استنتاج تتقاسمه أطراف عديدة حتى من داخل الحكومة نفسها. ولم تجد له حلاً إلى اليوم، على رغم محاولاتها المتكررة للتقليص من هذا الضعف.
تبدو خطورة فشل الحكومة في إيصال رسائل سياسية واضحة ومطمئنة للتونسيين أنها تتزامن مع ظرف نفسي واجتماعي صعب ومعقد. وعكَس مستشار زعيم حركة النهضة التململ من نقطة الضعف هذه الواضحة لدى الصيد، حين أشار في نفس يوم توجه رئيس الحكومة إلى البرلمان إلى أنّ "الصيد لم يبعث إلى الآن الأمل في التونسيين، وإنّهم ينتظرون منه في خطابه مصارحة الشعب التونسي بالمخاطر التي تهدد البلاد وبما تم انجازه خلال الـ100 يوم، ولا ينتظرون منه الإعلان عن قرارات".
إلا أن هذا الأمر لم يحدث بشكل واضح خلال إلقاء الصيد لكلمته، وإن شهد أداؤه بعض التحسن. ونجح الصيد في تخطي عقبة المائة يوم التي ورّط نفسه فيها منذ البداية من دون أن يطلب منه أحد ذلك. وأشار الصيد إلى أنّ "فترة المائة يوم الأولى لا تعدو أن تكون فترة إمهال من المفروض أن يُترك فيها المجال للحكومة لتنظم أمورها وإحكام سير عملها وتحديد أولوياتها وأهدافها بدون ضغوط أو تعطيل".
واعتبر النائب عن "نداء تونس"، خميس قسيلة، في رده على كلمة رئيس الحكومة، أن "كل ما راج حول انتظار مرور 100 يوم لتقييم عمل الحكومة كان مغالطة، إذ لا يمكن إصدار أي حكم على حكومة تعالج وضع تونس اليوم، وأنهم ينتظرون اليوم حكومة تعي بنفسها أن الفترة الاولى هي فترة حاسمة وإذا لم يتم استغلالها في اتخاذ اجراءات شجاعة وإصلاحات مؤلمة فإن الوقت الذي سيأتي لاحقاً لا يمكن تداركه.
وبدا على الصيد أيضاً بعض من الحزم في مواجهة ما سمّاه "الابتزاز وسياسة لَيّ الذّراع" التي لن يقبل بها، مؤكداً أنه "لن يسمح بالفوضى والتطاول على القانون"، في إشارة إلى الاحتجاجات الكثيرة وتعطيل الانتاج في بعض المواقع الحساسة. لكن لا أحد يعرف كيف سينجح الصيد في ما فشلت فيه كل الحكومات المتعاقبة قبله، وخصوصاً مع تشبث النقابات بحق الإضراب ومخاوف الأحزاب من عودة العصا الغليظة في مواجهة هذه الاحتجاجات والاعتصامات.
ولم ينس الصيد في خطابه الموجّه إلى النواب أن يتوقف عند قضايا كثيرة تشغل بال حكومته والتونسيين على حد سواء، وأبرزها مشكلة الاٍرهاب والتهريب وتهديدات الحدود الجنوبية المتفاقمة بحكم تطور وجود تنظيم "داعش" في ليبيا، وقرار تونس وضع عوازل على امتداد 168 كيلومتراً على الحدود. وأشار إلى أن التهريب أصبح في يد عصابات منظمة تضرب الاقتصاد في الصميم.
كما تعرض للمشاكل الاقتصادية وإجراءات الحد من أزمات الصناديق الاجتماعية وامكانية رفع سن التقاعد. وجميعها مواضيع حساسة ستضعه وجهاً لوجه مع النقابات عشية المفاوضات حول زيادات الأجور لسنتي 2015 و2016، والتي يعرف الجميع صعوبتها بحكم تراجع النمو وتدني الإنتاج وتفاقم عجز صناديق الدولة.
اقرأ أيضاً: الحكومة التونسية ومائة يوم من الإخفاق