هل تشهد مصر "استبداداً تنموياً"؟
إحدى أبرز الجدليات حول الواقع المصري اليوم هي حول فصل الإصلاح السياسي عن الاقتصاد، حيث يعشق مؤيّدون للسلطة المصرية النموذج الصيني للنجاح الاقتصادي في ظل إحدى أسوأ الدكتاتوريات في العالم. ومن زاوية أخرى، يتفاءل معارضون بأن نجاحاً اقتصادياً قد ينعكس إيجابياً على المسار السياسي، إذ يسفر تزايد الطبقة الوسطى عن الدفع بفئات اجتماعية تطالب بالتمثيل، وتضغط على المستبد القديم، على طريقة بينوشيه في تشيلي. ولكن الواقع عبر الأرقام يمنحنا صورة مختلفة تماماً، حتى الآن على الأقل.
أول أركان القطع بنجاح تنموي هو في نسب الصعود من خط الفقر، ولا يرجع هذا فقط لأسباب اجتماعية وإنسانية، بل هي أسباب اقتصادية بحتة، حيث يؤدي تزايد القدرة الاستهلاكية إلى الدفع بأرقام النمو الحقيقي، وتنشيط الاقتصاد ليواجه الطلب المتزايد. هذا هو جوهر المعجزة الصينية، إذ انخفضت نسبة الفقر في الصين من 88.3% في 1981 إلى 1.9% في 2013، بمعدل انخفاض سنوي 2.7%. لقد صعد أكثر من 800 مليون إنسان فوق خط الفقر العالمي 1.9 دولار، وهذه أكبر طبقة وسطى في عالم اليوم.
بالعودة إلى مصر، تخبرنا الأرقام الحكومية أن نسبة السكان تحت خط الفقر في 2013 كانت 26.3%، زادت إلى 27.8% عام 2015، ثم قفزت إلى 32.5% بنهاية عام 2017، في انعكاسٍ مباشر لخطة "الإصلاح الاقتصادي" التي أشرف عليها البنك الدولي. لقد هبط نحو خمسة ملايين مصري إلى الفقر خلال عامين، وذلك بحسب خط الفقر المصري، 736 جنيهاً للفرد، بينما لو كان المعيار هو خط الفقر العالمي لقفزت النسبة أكثر بكثير!
ركن رئيسي ثانٍ في تقييم التنمية، هو في نسبة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي. بحسب البنك الدولي، بلغت تلك النسبة عام 2013 في مصر 39.25%، ثم هوت إلى 32.4% في 2016، قبل أن تعاود الارتفاع على استحياء، لتصل إلى 35.6% عام 2019، مدفوعةً على الأرجح بالاستثمارات الضخمة التي تم ضخّها في قطاعي مصانع القوات المسلحة ومصانع الشركات الحكومية في قطاع الأعمال العام.
صحيح أن مصر حققت نسب نمو كبيرة، مدفوعةً بقطاعي العقارات والنفط، إلا أن الصناعة لم تكن مساهماً، وهي القادرة على توفير قيمةٍ مضافةٍ أعلى، وفرص عمل أقيم، وهذا ما يفسر أن الانخفاض الكبير في نسب البطالة لم ينعكس على نسب الفقر. النقطة الفارقة هي "نوعية فرص العمل"، إذ يوفر قطاع الإنشاءات قدراً كبيراً من الأعمال المؤقتة أو منخفضة العائد.
ركن ثالث هو قدرة الدولة على جذب الاستثمار الأجنبي. وهنا من المهم تجنّب الوقوع في فخ الاحتفاء بأن مصر أكبر الدول الأفريقية جذباً للاستثمار الأجنبي في 2019، فهي مرتبطة باكتشافات الغاز الضخمة الجديدة، بينما تكشف بيانات البنك المركزي هبوط الاستثمار الأجنبي غير النفطي إلى 5.9 مليارات دولار في العام المالي 2018 - 2019، بالمقارنة بما قيمته 7.7 مليارات دولار في العام السابق.
لم تفلح البنية التحتية الجديدة الهائلة من محطات كهرباء وطرق في تغيير ذلك الوضع، وللأسباب مدى واسع لا يمكن تجنّب السياسة فيه، لا تبدأ عند المنافسة غير العادلة من شركات القوات المسلحة المعفاة من الضرائب وكلفة الأرض وغيرها، ولا تنتهي عند اهتزاز الثقة بمنظومة القانون والتقاضي.
ولا يغير مما سبق التطوير اللافت لبرامج حماية اجتماعية، مثل الدعم النقدي المشروط "تكافل وكرامة"، والدعم الغذائي "التموين"، والتأمين على العمالة غير المنتظمة "أمان"، إذ كلها كانت فعالة في منع تزايد "الفقر المدقع"، الذي زاد بنسبة 1% فقط، بالمقارنة بزيادة الفقر 5.5%، وهي أيضاً فعالة سياسياً بتوفير الحد الأدنى المانع للانفجار. لن تخرج قوافل المصريين الجوعى هاربةً على الطريقة الفنزويلية، علماً أن حتى هذا لم يُسقط نظام مادورو أيضاً.
أشرت، في مقال سابق، إلى عبث التشبيه بالاستبداد الصيني الذي هو "استبداد سياسي"، إذ يشهد انتخابات حكم محلي نزيهة، كما تشارك قاعدة من 90 مليون عضو في الحزب الشيوعي في اختيار قيادة الدولة... لا تنمية حقيقية بلا سياسة، حتى لو كانت سياسة استبدادية.