أثار أداء الرئيس دونالد ترامب، أمس الإثنين، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بعد قمة هلسنكي، موجةً عارمة من الردود الأميركية الناقمة و"المخيبة"، بتعبير رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السناتور الجمهوري بوب كوركر. توصيف تردد مثله، بل أقسى، على لسان قيادات الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين، فضلاً عن مسؤولين كبار سابقين، تمادى بعضهم إلى حد "تخوين" ترامب، كما قال جون برينن، مدير وكالة الاستخبارت المركزية "سي آي إيه" في عهد باراك أوباما.
المأخذ الذي تقاطعت عنده مختلف التقييمات، ما عدا القلّة منها التي صدرت عن عتاة المحافظين في مجلس النواب، هو أن الرئيس "تراخى" أمام بوتين، وبدا كمن "بصم" على حيثيات ومقترحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدءاً من نفي التدخل في الانتخابات الأميركية، إلى الصيغة التي طرحها بوتين بخصوص التحقيقات في موضوع القرصنة التي قام بها 12 من العسكريين الروس، ثم إلى سورية حيث تجاهل ترامب خرق اتفاق وقف النار وخفض العنف في الجنوب السوري. بذلك، بدا وكأن بوتين "عقد المؤتمر الصحافي بمفرده، فيما تولى ترامب ترداد صداه".
هذا المشهد تسبب بإطلاق ما يشبه حملة اعتراض واستنفار في واشنطن، اختلط فيها الانتقاد بالاستياء والرفض، وحتى المطالبة باستقالات بعض رموز الإدارة، من بينها السفير الأميركي في موسكو جون هنتسمن.
وجرت تساؤلات عما إذا كان بمقدور رموز أخرى مثل جون بولتون، المعروف بتشدده مع موسكو، مواصلة المشوار مع ترامب؟ ناهيك عن الجنرال جون كيلي، كبير مسؤولي البيت الأبيض المهتز وضعه منذ فترة. كما أن وزير الدفاع جايمس ماتيس غير مستبعد رحيله من الإدارة، بعد مغالبة طويلة مع حالة المشاكسة "وسياسة التباعد مع الحلفاء الأوروبيين"، التي يبدي الكثير من عدم الارتياح لها ولو بالتلميح. وهنا يذكر أن الحديث بدأ يتعالى عن أن البيت الأبيض "بدأ بعزله" عن ملفات تخصّ وزارته (مثل موضوع وقف المناورات مع كوريا الجنوبية الذي تقرر بدون التشاور معه)، كما لوحظ في الأيام الأخيرة أن الوزير "نأى عن ذكر اسم الرئيس خلال جولته الأوروبية".
إذاً، ما بان من قمة هلسنكي وما خفي وبقي من أسرار الاجتماع الثنائي بين الرئيسين الأميركي والروسي، فاقم الريبة والشكوك وعلامات الاستفهام، عمّق الفرز في الساحة الداخلية، ووضع الرئيس في خندق، وغالبية القوى والنخب ما عدا لفيفا ضيقا، في خندق آخر.
الجمهوريون لا يقل انزعاجهم من أداء الرئيس عن نقمة الديمقراطيين. بل هم في حرج أكبر. إذ ليس بإمكانهم مخاصمته قبيل انتخابات الكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل خوفاً من رد فعل قواعدهم التي تلتف حوله، وبقوة. وفي الوقت ذاته، ليس بإمكانهم احتضان قمة يرونها ربحاً صافياً لحساب بوتين. بل ثمة من يراها مقايضة لأوروبا بموسكو. فتصنيف ترامب للاتحاد الأوروبي كخصمٍ ولموسكو كمنافس، حرك مخاوف "الاستبلشمنت". خاصة أنه طالب دول الحلف الأطلسي بمضاعفة نفقات الدفاع من 2 في المئة من الناتج المحلي العام إلى 4 في المئة، في وقت لاحق. نسبة يقول الخبراء أنها ليست سوى تعجيزٍ غير مقبول بهدف "تخريب الحلف"، فضلاً عن تشجيعه على تفكيك الاتحاد الأوروبي. قد يكون تخوفاً مبالغاً فيه من جانب الدوائر التي دفعت باتجاه توسيع "الأطلسي" من دون مبرر بعد الحرب الباردة، وبما ساهم بمجيء بوتين وركوبه موجة إحياء الوطنية الروسية. لكن ترامب لم يترك مناسبة من دون صبّ الزيت على نار التوجس من التماهي مع الكرملين، ليس في أوروبا فقط، بل في ساحات مثل سورية.
في ضوء المشهد الذي كشفته القمة، طرحت وتجددت أسئلة: لماذا بدا ترامب خلال المؤتمر الصحافي كمن في فمه ماء؟ ولماذا كانت القمة أصلاً في غياب جدول أعمال وقضايا محددة وضاغطة؟ وما الذي طلعت به وبماذا يبرر عقدها؟ المشككون يقولون: ابحث عن خبايا التحقيقات الروسية.