وإن كان العراق قد تحول لأسباب عدة إلى ساحة رئيسية للاشتباك بين الطرفين في الفترة الأخيرة، فإن معطيات عدة قد تساهم في تراجع موقعه في الفترة المقبلة، لتبدو دول أخرى مرجحة لأن تتحول إلى وجهة للمعركة الأميركية الإيرانية، والتي ستتخذ، كما هو متوقع، طابعاً غير مباشر.
وتتجه الأنظار على نحو خاص إلى أفغانستان كساحة محتملة لحرب استنزاف طويلة أو لموجة جديدة من الحروب بالوكالة بين الولايات المتحدة وإيران، في إطار الردود المحتملة على اغتيال قائد "فيلق القدس".
ويبدو أن الولايات المتحدة تستعد لهذا الاحتمال، إذ إن الإشارة الأبرز لذلك وردت على لسان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بعدما شدد، يوم الثلاثاء الماضي، على ضرورة "الانتباه لدور إيران في أفغانستان الذي يعيق جهود السلام هناك"، لافتاً إلى أن "إيران لديها علاقة مع جماعات مسلحة عدة في الشرق الأوسط، ولديها علاقات مع حركة طالبان".
ويزيد اختيار العميد إسماعيل قاآني قائداً جديداً لـ"فيلق القدس" خلفاً لسليماني، احتمالات تعزيز التحركات الإيرانية في أفغانستان ضد الولايات المتحدة، إذ تشير تقارير صحافية إلى أن قاآني عمل ضمن قوات الحرس الثوري الحدودية لمكافحة تهريب المخدرات من أفغانستان إلى إيران، ويرتبط بعلاقات متينة مع بعض المجموعات المقاتلة في أفغانستان، كما ساهم في تدريب الجبهة الوطنية لإنقاذ أفغانستان التي كانت تقاتل "طالبان" في التسعينيات، عندما كان مسؤولاً عن فيلق الأنصار الرابع، المكلف بأنشطة الحرس الثوري الإيراني في أفغانستان وباكستان والجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. وذكرت بعض التقارير الصحافية أن علاقات قاآني مع الجماعات المذهبية والإثنية القريبة من إيران، مكّنته من تأسيس "لواء فاطميين" الأفغاني، الذي يخوض معارك مع المليشيات المدعومة من إيران مع قوات النظام السوري ضد المعارضة.
وفي حين تحتفظ الولايات المتحدة بقوات عسكرية في أفغانستان، تملك إيران بدورها حضوراً وازناً في البلاد عبر علاقاتها المتينة مع فصائل الشمال لعوامل تاريخية ومذهبية. كما نسجت إيران علاقات مع حركة "طالبان"، رغم العداء التاريخي بين الطرفين، وصلت حسب تقارير مختلفة، إلى دعم الحركة بالأسلحة لمواجهة الوجود الأميركي. وفي تناغم مع تصريحات إيران والقوى المتحالفة معها في العراق ولبنان وسورية المطالبة بخروج القوات الأميركية من المنطقة، نددت "طالبان" بمقتل سليماني في "هجوم شنته القوات الأميركية الهمجية"، حسبما جاء في بيان للحركة. وحذّر البيان من عواقب "المغامرة الأميركية"، معتبراً أن "إمارة أفغانستان تؤكد الاستمرار في مواجهة الوحشية والاحتلال الأميركي".
في المقابل، وبعد ساعات من مقتل سليماني، أبلغ الرئيس الأفغاني أشرف غني، وزير الخارجية الأميركي رفض بلاده استخدام أراضيها في أي صراعات إقليمية، معرباً في اتصال هاتفي معه، عن قلقه من أن يساهم اغتيال سليماني في "زيادة حدة التوتر بالمنطقة". وذكر بيان صادر عن الرئاسة الأفغانية، أن غني أكد خلال الاتصال على عدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية لصالح دولة ثالثة أو في أي صراعات إقليمية أخرى. ومع إشارته إلى أن "أفغانستان تتابع عن كثب الأحداث وتحاول الحفاظ على علاقاتها الطيبة مع جميع البلدان"، حضّ غني الولايات المتحدة "الشريك الاستراتيجي" لبلاده، "ودولة الجوار العظيمة" إيران، على خفض التصعيد وحل مشاكلهما عن طريق الحوار.
وفي ظل الفاتورة الباهظة للتهديدات الإيرانية بضرب المصالح الأميركية في الخليج، واحتمال اشتعال صراع مدمّر وخارج عن السيطرة بمشاركة العديد من القوى الإقليمية، من غير المستبعد أن يستسهل صنّاع القرار في طهران الردّ على عملية مقتل سليماني بأعمال انتقامية في أفغانستان، اعتقاداً منهم أن الكلفة المترتبة عليه ستكون أقل، من دون حساب نتائجه المباشرة وتداعياته الإقليمية.
ويحذّر خبراء من أن الرد الإيراني الواسع وغير المدروس في أفغانستان، يحمّل طهران مسؤولية كبيرة عن عملية خلط الأوراق في المنطقة برمتها، لتشمل آسيا الوسطى، إذ من المعلوم أن المنطقة تعدّ مسرحاً للصراع من أجل النفوذ السياسي والاقتصادي بين ثلاث قوى دولية كبرى، هي روسيا والصين والولايات المتحدة، وتؤدي إيران وتركيا دوراً مؤثراً كقوتين إقليميتين تتمتعان بثقل وازن، مع تسرب إسرائيلي إلى المنطقة منذ استقلال دولها عن الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. ويعدّ عمل وتنسيق اللاعبين الدوليين الثلاثة من أبرز دعائم الاستقرار في منطقة آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، ضمن معادلة إبقاء الصراع الجيوسياسي والاقتصادي بينهم تحت سقف عدم المساس بشكل كبير بمصالح أي منهم.
وأدى التزام إيران بسقف هذه التفاهمات دوراً مهماً في المحافظة على قواعد اللعبة في أفغانستان، مساهمة بإسقاط حكومة "طالبان" بعد الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001. وتؤكد تقارير أن "فيلق القدس" بقيادة سليماني تولّى عملية الدفع بحلفاء إيران الأفغان في تحالف الشمال، بقيادة برهان الدين رباني، للتحرك جنوباً باتجاه العمق الأفغاني والعاصمة كابول، بغطاء جوي أميركي للقضاء على "طالبان". واستطاعت إيران عبر هؤلاء الحلفاء أن تكون شريكاً أساسياً في التركيبة الجديدة الأفغانية بالتفاهم مع الولايات المتحدة.
في المقابل، وعلى الرغم من العداء الإيراني لحركة "طالبان"، والذي وصل إلى حدّ التلويح بشنّ حرب على الحركة في عام 1998، رداً على قتلها ثمانية دبلوماسيين إيرانيين في القنصلية الإيرانية في مزار شريف، شمالي أفغانستان، استقبلت طهران، بحسب تقارير عدة في الصحافة الأفغانية والباكستانية، الفارين بعد سقوط حكم "طالبان"، رغم الخلافات الأيديولوجية. وهو ما دفع باكستان والولايات المتحدة إلى اتهام إيران بتزويد مقاتلي "طالبان" بالأسلحة والعتاد، بعد العثور على مدافع مورتر وأسلحة أخرى إيرانية في ميادين القتال عام 2007.
وفي مايو/ أيار 2015 اتهم قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال جون نيكلسون، إيران بالوقوف مع حركة "طالبان" خلف هجوم ولاية فراه، غربي البلاد. كما أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في أكثر من تقرير أن طهران تقدم الدعم المالي والعسكري والتدريبي للحركة في أفغانستان. وبعد تحفّظ طويل على الاشارة إلى علاقات الطرفين، كشف أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، خلال زيارته أفغانستان نهاية عام 2018، للمرة الأولى، عن مباحثات بلاده مع "طالبان"، تزامناً مع تقدم المباحثات بين الحركة والجانب الأميركي برعاية قطر. وقال شمخاني في حينه، إن بلاده تريد "الثبات والاستقرار في أفغانستان"، مشدّداً على أن "طالبان مكون من المكونات الأفغانية وجزء من الشعب الأفغاني".
ومع ازدياد المخاوف من انتشار تنظيم "داعش" في أفغانستان منذ عام 2015، يبدو أن "طالبان" وإيران رفعتا وتيرة التنسيق بينهما بالتكاتف ضد عدو مشترك جديد، إضافة إلى العداوة مع الولايات المتحدة. ولكن استخدام "طالبان" في الحرب بالوكالة أمر مستبعد تماماً، فالحركة لا تعدّ حليفاً استراتيجياً، أو وكيلاً مباشراً، على عكس الحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والأرجح أن تدعم طهران "طالبان" بشكل غير مباشر، في محاولة لتقويض الوجود الأميركي من دون زعزعة الاستقرار في المنطقة.
وإذا كانت إيران تستطيع بالفعل أن توجه ضربات مؤلمة للولايات المتحدة في أفغانستان، لكن هذه الخطوة تبقى محفوفة بمخاطر امتداد هذا الصراع إلى الجوار الإقليمي، وتحمّل إيران مسؤولية خلط الأوراق في المنطقة واشتعالها، وهو ما لن ترحّب به الصين وروسيا وباكستان والهند، إضافة إلى بلدان الاتحاد السوفييتي السابق.
ويرى خبراء أنه في ظل المعادلات القائمة في المنطقة، يرجّح أن يكون الرد الإيراني على شكل حرب استنزاف طويلة ضد الوجود الأميركي في أفغانستان، من دون الإخلال بالمنظومة الأمنية التي يشكّل انهيارها كارثة حقيقية للقوى الإقليمية والعالمية. فمنطقة آسيا الوسطى لا تحتمل من الناحية السياسية والأمنية أي صراعات غير منضبطة، لأنها تحكم من قبل أنظمة قمعية ديكتاتورية ينتشر فيها الفساد والجريمة المنظمة، فضلاً عن معاناة المنطقة في العقود الأخيرة من ظهور جماعات متطرفة. لهذا، فإن أي خطوة غير محسوبة قد تفجر براكين في المنطقة التي تعدّها روسيا حديقة خلفية، ضمن قوس مصالحها القومية والأمنية والسياسية والاقتصادية المباشرة (العمق الحيوي)، وهي قد تمثل خاصرة أمنية رخوة لروسيا في حال زعزعة استقرار دول تلك المنطقة، لا سيما طاجيكستان وقرغيزيا وكازاخستان وتركمانستان، بالإضافة إلى إمكانية تسرّب المئات من عناصر "داعش" وتنظيمات أخرى إلى بلدان آسيا الوسطى، ولاحقاً روسيا، التي تملك حدوداً واسعة معها، ويتنقل مواطنو هذه البلدان من دون تأشيرات.
ولا يمكن في السياق، إغفال مصالح الصين، حليفة إيران، التي يمكن أن تتأثر كثيراً من الناحية الاقتصادية والأمنية، مع إمكانية انتقال الفوضى إلى الأقاليم الجنوبية ذات الغالبية المسلمة، في حال تحولت أفغانستان إلى معقل جذب للمسلحين. وبناء على ما سبق، من المتوقع أن تقف روسيا والصين ضد أي أعمال انتقامية إيرانية كبرى توجه للقوات الأميركية في أفغانستان أو مصالح الولايات المتحدة في منطقة آسيا الوسطى. وتحسباً لانتشار فوضى عارمة، من المتوقع أن تلجم بكين وموسكو أي نوايا إيرانية برد مزلزل في كابول، مع أنه ليس من المستبعد أن تلجأ طهران إلى اللعب على حافة الهاوية في حال ازدياد الضغوط عليها.