هلوسات

29 ابريل 2017
فريد بلكاهية / المغرب
+ الخط -

صوتٌ حاد كاد يقطع أنفاسي...
قمتُ فزعة وأنا ألهث. كانت الغرفة مضاءة كما العادة؛ لا أستطيع النوم في الظلام، أشعر وكأنني أضيع. أفرغت قنينة الماء التي تنتظرني فوق الكومودينو حتى آخر قطرة، وأنا أقرر بأنه حلم أسود... حلم أسود...

حاولت أن أتذكر الحلم وخيوطه المتشابكة، لكنني سمعت الصوت نفسه، والصراخ كأنه رجع صدى. كان مثل جاثوم ... الصوت قادم من الخارج؛ صوت يتأوه وينقطع كمن تتنازعه حشرجات الوداع الأخير. تصلبت ووقفت. كانت منامتي الزرقاء تطل عليّ لأرتديها وأبحث في جيبها العريض عن المفاتيح التي أخفيها عن نفسي في الليل، ربما أخاف أن أغادر المنزل دون شعور!

فتحت الباب وتبينت مصدر الصوت، إنه صوت جارتنا العجوز يأتي من المنزل الذي يجاورني. وجدتها أمامي تقف مذهولة تنظر إليّ بعينين مفتوحتين بداخلهما أناس غرباء. أمسكت بيدها فعانقتني بذراعها شبه العاجز، ثم قصدنا غرفتها، أجلستها برفق على السرير، وانتظرت أن تتكلم، أن تقول شيئاً؛ بدأت تسرد حكايات بجمل متقطعة:

أشخاص يتجولون في الغرفة...
رجال... نساء ...أصوات في الغرفة... قطط كلاب أحصنة بيضاء ...الغرفة...رجال...نساء...أصوات...قطط كلاب وأحصنة بيضاء جميلة...الغرفة...رجال...نساء...أصوات...
قطط وكلاب وأحصنة بيضاء جميلة...
قلت في نفسي: يلزمها إسطبل لهذا الحلم!

طمأنتها بعد حين ثم هيأت لها حليباً دافئاً بالزعتر(هذا ما رغبت فيه) وجلست بالقرب منها أنصت لوحدتها الطويلة التي تسرد من خلالها قصصاً موغلة في الزمن؛ عن أبويها اللذين غادرا منذ مدة، وإخوتها الذين انزووا لحيواتهم الخاصة، عن عشاقها الذين لم يقرروا يوماً ما الزواج منها بالرغم من أن صورها التي تزين بها جدران البيت تشهد أنها كانت في شبابها جميلة (في بعض الأحيان أشعر بأنني أشبه بعض الصور).

أشياء كثيرة عبرت. لا أدري لماذا رأيتني في حكاياتها الماضية. انتابني صمت قصير، ثم هدأت من روعها وأكدت لها أنها مجرد كوابيس ملعونة سببها أكلة دسمة، أو فيلم مرعب، لكنها أصرت على أنها رأت هؤلاء الأشخاص فعلاً!

حين انزويت، أحسست بوحدتي القادمة ونظرت إلى يدي كي أجدد الثقة في شبابهما.

اتجهت نحو الشرفة، ما يزال الزبائن الليليون يترنحون وكأنهم يهيئون نومهم القادم. في هذا الزقاق اعتدت على الوجوه المألوفة؛ الجيران وبائع الزيتون الذي تتصاعد من حانوته روائح لذيذة حتى إنني أشتهي رائحة الزيتون المشرمل بالثوم والقزبر والمعدنوس والحامض؛ كما أعشق رائحة القهوة الصاعدة من المقهى المجاور الذي يسهر لآخر الليل وهو يعيد أغاني قديمة لعبد المطلب وليلى مراد وأم كلثوم... وأترك النافذة تلتقط النغمات.. وحتى لو نمت، كنت أحب أن يجاوروني بأصواتهم وروائحهم المختلفة. عدت إلى النوم وأنا أشعر بدفء غريب يسري في يدي التي امتدت لتلمس اليد الأخرى، ونمت وأنا أمسك بيدها وكأننا نستأنس ببعضنا البعض. كان غريباً ما يحدث فعلاً...

ففي اللحظة التي ولجت المنزل، أحسست بأنني رأيت هذا المنزل من قبل، حتى أنني شعرت بهلع كبير. فلم يسبق أن زرتها وهذا ما أنبتني عليه حين أمسكت بيدي، متى عرفت هذا المنزل؟ وأين؟

تذكرت أنني رأيته في الحلم، بنفس التفاصيل، والدرج في قلب المنزل الصاعد إلى أعلى المزين بأغطية صوف على الجدران، وأدوات زينة قديمة عرفت أين أجدها، إذ أنني سارعت إلى الممر لألمس بيدي مرود الكحل العتيق، ومرآة قديمة من النحاس، و"مشطة" نحيلة رمادية اللون بخطوط سوداء، وزجاجات صغيرة تضم مساحيق لم تعد تستعملها نساء هذا الزمن. كنت أعرف هذا المكان من قبل، فهل يمكن أن يسبق الحلم الواقع؟ هل يمكن أن يعرفني الحلم بالأمكنة التي لم يسبق أن أحدثت فيها تاريخاً للعبور بالقرب منه؟ وكيف حلمت بالمكان ولم أحلم بسيدته؟

في الصباح أطلت العجوز بنظرة هادئة تماماً. تناولنا الفطور معاً دون أن تتحدث عن البارحة. حاولت أن أستدرجها لقصة من قصصها الجميلة، لكنها كانت امرأة أخرى! وفي الليالي الموالية تكرر الصراخ نفسه والمشهد ذاته، وصرت أشعر بأن قدري أن أستيقظ في الليل لأهدئ من روعها الذي لا أعرف إن كان بفعل الشيخوخة أم أنه شعور غامض؟

حين فكرنا معاً في الطبيب النفسي، لم نكن نؤمن بذلك، لكننا قررنا معاً، نظر إلينا ملياً وأكد أنها هلوسات تحدثها الشيخوخة ووصف لها دواء يقضي على أعراض الهلوسات تماماً.

في الليل، كان شيء ما يشدني إلى الانتظار، لكن، لم يحدث صراخ ولم أسمع صوتاً، ولا يد امتدت إلى يدي. أحسست حينها بأن لحظة ما افتقدتها، كان غريباً ما يحدث؛ لقد اعتدت على يديها اللتين تمنحاني الحياة لبضع دقائق. كانت يدها تنام في يدي وأعود لفراشي وكأنني هيأت لقاء مع كائن يمر في الحياة ويقدم ورقة مليئة بالكلمات والأسرار، ومواعيد الأكل والمرض والموت. كان شيء ما يوثقني إلى هذه المرأة وكأننا معاً كنا ننجب طفلاً صغيراً يتأمل العالم بلغتين مختلفتين.

مرت ليالٍ دون أن ألتقي بالعجوز، ورغم أنني كنت أراها في النهار إلا أن الليل كان له سحر خاص، فقد كانت أنوار الليل تبيح لنا سرد حكايات عذبة تحكي فيها العجوز عن لقاءات جميلة انمحت من الزمن، لكنها ما زالت يقظة عبر ارتعاشات اليدين وارتجافات العينين. كانت كمن يحملني زمناً آخر أظل أخيطه برفق بخيوطي الملونة وكأنني أنفخ فيه ميلاداً آخر.

وفي أحد المساءات جاءتني العجوز بشكوى غريبة جداً؛ أخبرتني بأنها اشتاقت للناس الذين يجوبون الغرفة لأنهم كانوا يؤنسون وحدتها؛ يكلمونها بلغة هي وحدها تفهمها، إنها تعرفهم منذ زمن طويل وتريد عودتهم. وأخبرتني بأنها اشتاقت إليّ أيضاً.

غريب ما يحدث لنا معاً. فقد كنت أتمنى أن يعود إليها هؤلاء الغرباء الذين بدأت أحبهم، لأنني اكتشفت من خلالهم تاريخاً محته ذاكرة العجوز، لكنه يستيقظ حين نمسك بأيدي بعضنا البعض.

حين أخبرنا الطبيب بما نرغب فيه معاً، نظر إلينا طويلاً، وقال باستغراب شديد:
- لم يحدث أن طالب مريض بعودة الأعراض...!
أجابت العجوز وهي فرحة بطلبها:
- الأعراض تؤنسني، إنها أقوى من الأشخاص أنفسهم..
- كما تريدين. (رد الطبيب بهدوء وبتهكم خفيف) ولكنني لن أعيد إليك كل الأصوات، سأجعلهم يزورونك بين الفينة والأخرى.

لم تكن العجوز وحدها السعيدة بعودة الأعراض والأصوات التي تحدث دوياً في الليل. صار لنا موعد مع الصوت وفي كل صوت تأتي الحكاية، وأستمتع بالأسرار الصغيرة التي يخبئها صدر العجوز.

وفي أحد الأيام سردت علي قصة غريبة جداً، كانت تنظر في عيني وهي تقول:

"كنت ممرضة لإحدى النساء الثريات التي تقاعدت في سريرها إثر مرض لعين. كنت، بالرغم مني، أسترق النظر لسيد المنزل، كان عميقاً جداً. شفتاه المكتنزتان كانتا تتعباني. كان يتبادل معي نظرات صغيرة وبضع كلمات عن سحر الأدب حين رآني أقرأ للسيدة كل يوم بعض الفقرات من روايات عالمية أعشقها.

كنت أرى في حلمي أن السيدة تموت، وكان هذا الحلم يتكرر في كل يوم، ومع الأيام بدأت أدرك بأنني أنتظر موتها حتى أحل مكانها. كانت الرغبة تكبر وخفت أن أقتلها، فقررت الانسحاب، وكان السيد يلح أن أبقى، لكنني آثرت الرحيل. كنت أسحب القدمين وكأنني أعدم نفسي".

كانت العجوز تحكي وأنا أنظر إلى القصة وكأنها تتكرر أمامي ...
قلت للعجوز: وكأنني عشتها...!
كانت العجوز قد غيرت ملامح وجهها لترتدي كلاماً آخر قالته من جديد بعينيها الصافيتين:
- مجرد قصص تستعاد مع الزمن، يعيدها أناس آخرون، عاشوا نفس الأحاسيس ونفس الرغبات...

فتحت عيني عن آخرهما:
- لا يمكن أن نتشابه في هذه القصة إلى هذه الدرجة...
نظرت إليّ العجوز وفي عينيها دهشة وطفولة، وتابعت:
-منذ عشر سنوات غادرت ذلك المنزل الكبير، وكان معي وشاح أعزه كثيراً، كان مطرزاً بكلمة صغيرة باللغة الفرنسية: vent لكنه اختفى بعد حين...
قلت دون أن أشعر: لونه وردي؟!

كانت العجوز قد استوت في مكانها وهي تحدق في ملامحي وامتدت يدها إلى وجهي تتفحص فيه بغرابة، وكنت أتفحص نفسي من جديد...
كانت العجوز تحكي شيئاً آخر لا أعرفه، ولكنني غادرت إلى منزلي، كنت أقلب يدي وأعيد صفحات خطوطهما الصغيرة، ما زالتا بعيدتان جداً عن الأغوار، نمت عميقاً؛ هذا ما أحسست به وأنا أستيقظ، كنت غريبة جداً، قصدت لأول مرة الطبيب دون موعد، حكيت له الحكاية، ربت على كتفي وقال:

- اهدئي، اهدئي... بدأت تتخلّصين بشكل تدريجي من هلوساتك عن السيدة العجوز!


* كاتبة من المغرب


المساهمون