مثل كل الدول ذات الجغرافيا المحدودة، والديموغرافيا القليلة، لجأت دولة قطر إلى تبني استراتيجيات خاصة من أجل حماية كيانها السياسي، وسيادتها الوطنية، من قبيل تبني استراتيجية حسن الجوار، واستراتيجية التحالفات الإقليمية والدولية، واستراتيجية تكوين "سمة وطنية"، لبناء مكانة عالمية تعزز الشرعية السياسية للدولة، وتُبرز قيمتها للعالم. وتضاعفت حاجة قطر إلى تبنّي هذه الاستراتيجيات نظراً لما يشهده الإقليم الجيوسياسي المحيط بدولة قطر من تجاذبات جيوسياسية بين القوتين المتنافستين في الخليج: السعودية وإيران. وهو ما يعني إمكانية وقوعها ضحية للتنافس بين القوتين على الجغرافيا، أو التنازع على النفوذ السياسي في المنطقة.
وتعززت مخاوف قطر وقلقها على استقرارها واستقلالها مع احتلال العراق للكويت في عام 1990، والاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وشعور القيادة القطرية التي تولت حكم البلاد منذ 27 يونيو/ حزيران 1995، بأن دولاً إقليمية رئيسية كالسعودية ومصر لا ترحبان بـ"النظام الجديد" في قطر، واعتبارهما هذا النظام مصدر قلق لهما. أضف إلى ذلك، التاريخ الطويل من النزاع الحدودي بين الدوحة والرياض الذي لم يتم "إنهاؤه" في 6 يوليو/ تموز 2008، مع توقيع البلدين اتفاقية ترسيم الحدود بصورة نهائية، بعد نزاع حدودي استمر نحو 35 عاماً، وصل إلى حدّ الاشتباك المسلح في عام 1992.
من هنا، وضعت السياسة القطرية استراتيجيات "تهدف إلى تحويل قطر بحلول عام 2030 إلى دولة متقدمة، قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، وعلى تأمين استمرار العيش الكريم لشعبها جيلاً بعد جيل"، كما جاء حرفياً في "رؤية قطر 2030". والأهم أنها تحمي قطر من احتمالات إقدام أي من دول الإقليم على مثل ما فعل العراق ضد الكويت، أو ما فعلته إيران ضد الجزر الإماراتية، واحتلال الجارة الصغيرة، تحت غطاء من أطراف إقليمية أو دولية نافذة في المنطقة.
ولأجل حماية استقلالها الوطني، والحفاظ على سيادتها السياسية، وظّفت قطر الدبلوماسية العامة وقنواتها، و"السمة الوطنية" وعناصرها كأدوات استراتيجية لتحقيق التواجد في الساحة الدولية، وإنشاء "منظومة ردع دفاعية" ناعمة. وباعتمادها هذا النموذج، نجحت قطر في السير على حبل مشدود على طول خطوط الصدع الإقليمية والدولية التي تنتشر في الشرق الأوسط. وفي تفسير للسياسة القطرية هذه، قال السفير الأميركي في الدوحة، جوزف ليبارون، في شهر يونيو 2009: "أعتقد بأن قطر تحتل مساحة في وسط الطيف الأيديولوجي في العالم الإسلامي، والهدف من ذلك الحفاظ على أبواب جميع لاعبي هذا الطيف مفتوحة أمامها. إن قطر تملك الموارد لتنفيذ رؤيتها، وهذا أمر نادر الحدوث. وفي كل الأحوال، فإن استراتيجية قطر للحفاظ على التوازن في علاقتها مع الولايات المتحدة وعلاقاتها مع القوى الإقليمية مثل إيران والسعودية، من المرجح أن تستمر، وهذا قد يؤدي إلى وضع الدوحة وواشنطن في مواقع متناقضة تجاه بعض القضايا الهامة، رغم التعاون الوثيق بينهما".
نوّعت دولة قطر قنوات الدبلوماسية العامة، وأدوات القوة الناعمة، ووزّعتها على واجهات عدة، في إطار عملي منسجم يترجم كل الأهداف التي وردت في رؤية قطر 2030. على الواجهة الإعلامية، كانت "شبكة الجزيرة الفضائية" التي شكلت ومنذ انطلاقها في عام 1996 حالة فريدة في الفضاء الإعلامي العربي. ولم يقتصر حضور "شبكة الجزيرة" على الهواء وشاشات المشاهدين فقط، بل تجاوز ذلك، عندما انتقلت الجزيرة من مجرد قناة إعلامية ناقلة للأخبار والأحداث إلى صانع أو على الأقل مشارك في صناعة الأحداث. وخلال سنوات قليلة، باتت "شبكة الجزيرة" تتبوأ مكانة لا تقل شأناً عن شبكات "سي أن أن" أو "سكاي" أو "بي بي سي" العالمية. وتزايد نفوذ هذه العلامة التجارية والشبكة الإعلامية بعد إطلاق قناة الجزيرة الإنكليزية، و"قنوات الجزيرة الرياضية" و"الجزيرة أطفال" و"الجزيرة مباشر" و"الجزيرة الوثائقية". أضف إلى ذلك أن الجزيرة وسعت من نطاق أنشطتها فلم تعد كأي قناة تلفزيونية تقليدية، بل أوجدت لنفسها أذرعاً طويلة ومؤثرة من قبيل "المهرجانات السنوية" و"مركز الجزيرة للتدريب" و"مركز الجزيرة لحقوق الإنسان" و"مركز الجزيرة للدراسات" و"الجزيرة نت" وغيرها. وباتت شبكة الجزيرة التلفزيونية وشبكة مؤسساتها تشكل أداة هامة في "ترسانة الدفاع" عن وجود الدولة لقطرية في مواجهة القوى الكبرى المتصارعة في منطقة الخليج.
وعلى الواجهة الاقتصادية، لم تغفل قطر أهمية توجيه ثرواتها الطبيعية والاستثمارية لحماية كيانها السياسي، وتعزيز مكانتها ودورها إقليمياً وعالمياً. وقد تجلّى ذلك في التوزيع الذكي لمحفظة الاستثمارات القطرية الخارجية، لتشمل الشركات الكبرى من قبيل الاستثمارات في مشاريع الغاز والبتروكيميائيات في الصين وإندونيسيا وبناء المشاريع السياحية والعقارية في بريطانيا، والدخول في شراكات عالمية في أسواق المال والاستثمار والخدمات المصرفية.
في المقابل، اهتمت قطر بجذب الاستثمارات الأجنبية، فقد نشرت صحيفة "أميركان كرونيكل" تقريراً مطولاً عن أفضل بقاع العالم في الوقت الحالي من حيث جذب الاستثمارات العالمية، جاء فيه أن دولة قطر هي الدولة الأولى في العالم التي تأتي على رأس قائمة هذه الدول. وأشار التقرير إلى أن احتفاظ الاقتصاد القطري بمكانته وانتعاشه الملموس من أكثر العوامل التي جعلت قطر المكان الأفضل لجذب استثمارات العالم. ونشطت قطر على الواجهة الإنسانية عبر مجموعة من مبادرات وجمعيات المجتمع المدني القطري، بهدف تقديم الوجه الإنساني للشعب القطري. وباتت المساعدات الإنسانية القطرية تصل لكل المحتاجين والمنكوبين بعيداً عن أي حواجز دينية أو عرقية أو إثنية، من قطاع غزة إلى منكوبي تسونامي آسيا، او إعصار كاترينا، أو فيضانات أستراليا 2011، أو زلزال اليابان 2011، أو توفير السفن لآلاف المهجرين بسبب النزاع المسلح في ليبيا 2011.
وعلى الواجهة الثقافية، اهتمت قطر باستقطاب قادة الفكر والسياسة في العالم، عبر جذب مراكز الأبحاث العالمية مثل "مركز بروكنغز"، أو استضافة مراكز أبحاث مثل "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة"، و"معهد الدوحة للدراسات العليا". كما لوحظ الاهتمام القطري في فكرة المتاحف والتركيز على التراث كونه مكون أساسي في منظومة الدفاع عن الاستقلال الوطني. فالأصالة والتراث والتاريخ كلها عوامل قوة وحماية، تؤكد "مشروعية الدولة القطرية وأصالتها وامتدادها في التاريخ"، وبالتالي التغلب على "نقطة الضعف" المرتبطة بمحدودية الجغرافيا والديمغرافيا. أضف إلى ذلك أنها تعزز البعد العالمي للدولة، من خلال إبراز مساهمتها في التراث البشري والفكر الإنساني.
وتُوّج الأداء القطري على الواجهة الرياضية بالنصر الذي حققه الملف القطري لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022. ويحلل الكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس، المتخصص في العلوم الجيوسياسية في صحيفة "ليكيب"، دور الرياضة في إطار الدبلوماسية العامة القطرية بقوله: "اختارت قطر الدبلوماسية الرياضية حتى تتواجد على الخارطة. وفي منطقة جيوسياسية مضطربة، فإن القوة الناعمة والصورة والجاذبية باتت عوامل رئيسية. واليوم، من الصعب على أي دولة قد تكون لها شهية نحو قطر أن تقدم على أي محاولة طالما أن قطر باتت تملك هذه الرؤية والوضوح. صارت قوة عظمى صغيرة لأنها تؤدي دوراً دبلوماسياً يفوق ثقلها السكاني. وأن تصبح عاملاً رئيسياً في الرياضة العالمية يعود إلى أنها تصبح عاملاً رئيسياً في الدبلوماسية العالمية".
وتنوعت أدوات قطر لتصل إلى الواجهة السياحية التي تسعى إلى جذب العالم للتعرف إلى قطر وإمكانياتها. ورغم أن السياحة القطرية تواجه منافسة شديدة من دول الجوار والإقليم، إلا أن السياحة تبقى أداة داعمة وأساسية في تعزيز الكيانية القطرية، وتبقى "الخطوط الجوية القطرية" العلامة الأبرز على الواجهة السياحية. فقد نجحت الناقلة الوطنية، وفي غضون سنوات قليلة (أعيد إطلاق الشركة في عام 1997)، بالوصول إلى العالمية والتحليق إلى أكثر من 150 وجهة عبر العالم. وقد تم تصنيف الشركة في عام 2017 كأفضل شركة طيران في العالم. واللافت أن الخطوط الجوية القطرية أعادت منذ 2006 صياغة الشعار الذي يعلو طائراتها بحيث أصبح اسم قطر وشعار "المها" الذي يرمز لقطر أكبر حجماً. ويمكن الاستدلال من ذلك، أن قطر أرادت أن تضع اسم الدولة ورمزها الوطني على طائرات أسطول الخطوط الجوية القطرية، ليكون بمثابة إشهار أو إعلان يجوب العالم على مدار الساعة والأيام، ويعبر البلدان والقارات، ليعرّف شعوب الأرض بدولة قطر.
وعلى امتداد هذه الواجهات، وفّرت قطر لنفسها حماية بـ"درع" من الأدوات الاستراتيجية بات من الصعب معها الاعتداء على هذه الدولة الصغيرة في غفلة من العالم. وبات من الصعب أن تتعرض أراضي قطر أو سيادتها لخطر الاحتلال أو القضم أو الضم أو الاختراق، من دون تحرك الكثير من دول العالم وشعوبها ومنظماتها الأهلية والثقافية والإعلامية، لأنها باتت ترتبط بمصالح اقتصادية أو سياسية أو إنسانية أو أخلاقية مع قطر ومؤسساتها الرسمية والأهلية. كما أن تعاضد عناصر "القوة الناعمة" القطرية مع دعم القوى الكبرى، مكَّن دولة قطر من التغلب على نقاط ضعفها الجغرافية والديمغرافية، بل وفر لها فائضاً سياسياً أمكن توظيفه في تأدية دور فاعل ومؤثر في العلاقات الإقليمية والدولية.