"حرام ساعدوهم ليقعدوا". تعبير "حرام" هو أكثر ما يكرهه علي في هذه الحياة. في سنته الأولى في الجامعة اللبنانية في معهد العلوم الاجتماعية في بيروت، يعيش علي مع صديق الطفولة والدراسة المكفوف مثله مهدي، تجربة جديدة ومختلفة. فالانتقال من المدرسة إلى الجامعة هو عادةً قفزة هائلة نحو عالم مجهول. فكيف الحال إذا كان مَن يخوض هذه التجربة شخصا مكفوفا في بلد لا يمكّن ذوي الإعاقة من حقوقهم؟
يقول مهدي: "اكتسبنا أصدقاء جدداً، العالم هنا واسع جداً. والأجواء تصبح أكثر ودّاً مع الوقت". يقاطعه علي: "نحن في حاجة إلى المساعدة، هذا صحيح، لكننا لا نقبل شفقة من أحد. أعلم أننا لا نعيش في أوروبا، لكننا نأمل في أن يتحلّى الناس من حولنا بالوعي".
في مقدمة كتابه "الأيام"، يقول الأديب المصري طه حسين، الذي فقد بصره صغيراً: "الذين يقرأون هذا الكتاب من المكفوفين، سيرون فيه حياة صديق لهم تأثّر بمحنتهم تأثّراً عميقاً، لا لشيء، إلّا لأنّه أحسّ من أهله رحمةً وإشفاقاً، وأحسّ من الناس سخرية وازدراءً. ولو عرف أهله كيف يربّونه من دون أن يظهروا له إشفاقاً، ولو كان الناس من رقي الحضارة بحيث لا يرثون للمكفوفين ولا يظهرون لهم معاملة خاصة، لعرف ذلك الصبي وأمثاله محنتهم في رفق. ولاستقامت حياتهم بريئة من التعقيد كما تستقيم لغيرهم من الناس".
عُرف عن أبي العلاء المعرّي، الشاعر العباسي الذي فقد بصره في الرابعة من عمره، أنه كان يتحرّج من تناول الطعام أمام الآخرين، بل كان ينزوي في نفق تحت الأرض تحاشياً للأعين. في أحد الأيام، أكل دبساً فسقط بعضه على صدره، ولمّا خرج إلى الدرس قال له تلاميذه: "أكلت دبساً"، فأسرع بيده إلى صدره، وقال: "نعم قاتل الله شرّه"، ثم حرّم الدبس على نفسه طوال حياته.
لم تكن حال طه حسين، الذي جعل من حياة أبي العلاء محور أطروحته لنيل الدكتوراه، أفضل. فقد حرّم على نفسه ألواناً من الطعام، كالحساء والأرزّ وكل ما يؤكل بالملعقة، إذ كان يكره أن يضحك إخوته أو تبكي أمه. وعندما دعاه رئيس جامعة القاهرة علوي باشا إلى مائدته تكريماً له، جلس إلى المائدة من دون أن يصيب شيئاً من الطعام. فلأنه لم يعرف ماذا يصنع بالشوكة وبالسكين، لبث في مكانه هادئاً تجنّباً لأيّ سخرية أو إشفاق.
يتناول علي ومهدي طعامهما مستخدمين الأواني المختلفة بمهارة عالية. من المعروف أنّ الاستقلالية وعدم طلب المعونة خلال تناول الطعام هي مدخل أساسي لبناء شخصية مستقلة ومتّزنة. كما أنّ إتقان استخدام الحواس المتبقية يساهم إلى حد بعيد في تذليل المعوقات التي يفرضها غياب إحدى الحواس.
تلعب حاسة اللمس دوراً مساعداً في حياة الأشخاص المكفوفين وتمكّنهم، إلى جانب البرامج الناطقة، من استخدام مستحدثات التكنولوجيا، من وسائط تواصل وغيرها. اقتنع علي أخيراً باقتناء هاتف ذكي يعتمد على اللمس. قبل فترة كان يردّد مازحاً، في معرض انزعاجه من صعوبة مجاراة هذه الثورة: "نحن المكفوفين كل شيء في حياتنا تاتش (لمس)، ما عدا هاتف التاتش".
رداً على السؤال التقليدي حول ما يحب الطالب أن يكون عليه عندما يكبر، يجيب مهدي بشيء من السخرية: "الحلم بمهنة مستقبلية هو ترف لا نمتلكه. خياراتنا محصورة بموظف سنترال هاتفي أو بالأشغال اليدويّة التقليدية، كصناعة القش وغيرها".
لا يختلف ما يدلي به مهدي كثيراً عمّا قاله طه حسين عندما كان في مثل سنه قبل مائة عام: "قد فرضت الحياة على أمثالنا إحدى اثنتين: فإما الدرس في الأزهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة ببضعة قروش تؤخذ آخر الشهر، وإمّا أن تقرأ القرآن في المآتم".
صورة الحقوق المهدرة لم تتغيّر إذاً. وبالرغم من القانون 220 لعام 2000 الذي يفرض على كلّ مؤسسة في لبنان توظيف الأشخاص المعوقين، ومن ضمنهم الأشخاص المكفوفون، بنسبة 3 في المائة، يبقى القانون حبراً على ورق في ظلّ غياب المراسيم الإجرائية. حتى تلك المؤسسات التي توظف عدداً من الأشخاص المعوقين، فإنها تحصر عملهم بمهام روتينية مؤطرّة تحدّ من قدرتهم على التطور والإبداع. يعلّق الشابان: "انتسبنا إلى الجامعة لنثبت أننا قادران على نيل شهادة. لكنّنا واثقان أنّ تعليقها على حائط في الصالون هو أقصى ما يمكن أن تفيدنا به الشهادة".
لكنّ الشابين يحلمان أيضاً بالحبّ. "بدونك أشعر أنّي أعمى حقاً، أما وأنا معك فإنني أتوصّل إلى الشعور بالأشياء التي تحيط بي". تُضحك هذه العبارة التي وجّهها طه حسين إلى زوجته سوزان بريسو، مهدي وعلي. يستغربان كيف يقول ذلك. لكنّهما بعد تأمل، يثنيان على جمال المعنى وعمقه.
بعد وفاة طه حسين، رثته زوجته بكلمات مؤثرة: "ذراعي لن تمسك ذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس. أريد عبر عينيّ المخضّبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة". يتساءل علي بدهشة: "هل توجد حقاً امرأة كهذه في هذا العالم!؟".