أكثر من سؤال يُطرح عن أصول موسيقى "كناوة" وجذورها، ولماذا ألصق بها الاسم، وكيف أصبح المغرب وجهةً لهذه الإيقاعات المهمشة خلال القرن الماضي. أسئلة يجيب عنها، وعن أخرى هشام عيدي، الناقد الموسيقي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في نيويورك والذي كرّس بحوثه وإصداراته لدراسة ظواهر موسيقية مرتبطة بالحركات الثقافية والاجتماعية.
يفسّر عيدي صعود موسيقى "كناوة" لدى جمهورها داخل المغرب بالعودة إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، حيث ظهرت نتيجة التبادل الثقافي والحضاري بين المغاربة ومجموعات من المواطنين الأميركيين السود، الذين هربوا إلى باريس أثناء نضالهم ضد الممارسة العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية.
كفاح السود ضد العنصرية كان له وقع كبير على موسيقى "كناوة" بالمغرب، وشهد العام 1920 موجة هجرة قوية لكتّاب وشعراء أميركيين سود إلى العاصمة الفرنسية، ثم منها إلى دول المغرب الكبير؛ الجزائر والمغرب وتونس، ومنهم من ذهب إلى مصر، وتحديداً مدينة الإسكندرية.
ولأن مدينة طنجة المغربية كانت تعتبر منطقة دولية، خلال حقبة الاستعمار، يشرح عيدي كيف شكّلت نقطة التقاء لعدد منهم، خاصة أن محطة "صوت أميركا" كان لها مقرّ في المدينة.
يروي عيدي وقائع تلك الحقبة وما نُقل عنها، فبعد أن اكتشفت مجموعات السود إيقاعات موسيقى "كناوة"، قرروا نقلها إلى العالمية. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا وقع الاختيار على هذه الموسيقى تحديداً؟ الجواب ببساطة لأنه أصبح في المغرب غربيون تهمّهم وتعبّر عنهم.
تتمثّل رحلة "كناوة"، وفق عيدي في علاقة الغربيين بإيقاعاتها الموصولة بتاريخ العبودية، كما سمع الأميركيون من أصل أفريقي في إيقاعاتها نوعاً من موسيقى البلوز، ويضرب مثلاً بالفنان راندي وستن، الذي يصف المعلم "الكناوي" المغربي عبد الله الكور بأخيه، لأنه عاش معاناته نفسها مع العبودية، وقد لعب وستن دوراً كبيراً في نشر موسيقى "كناوة" إلى العالم، إذ قام في 1960 خلال جولة بأفريقيا بدعم من وزارة الخارجية الأميركية، بتسليط الضوء عليها، واستقر بالمغرب منذ عام 1962 حتى العام 1972، وعبر صداقته مع عبد الله الكور، استطاعا نشر "كناوة" في أوروبا وأميركا، لتصبح بداية ثمانينيات القرن الماضي موسيقى عالمية.
خلال الثمانينيات كان لفرقة "ناس الغيوان" دور كبير في تحوّل هذه الموسيقى بالمغرب من خلال انتقالها من مهدها في طنجة إلى مدينة الصويرة، حث يقام فيها مهرجان "كناوة" حالياً، وقد زارها جيمي هندريكس وبوب مارلي لسماع عزف الراحل عبد الرحمن باكو، كما يقول عيدي.
يتابع "أنه خلال التسعينات بدأت موسيقى "كناوة" بالصعود تدريجياً إلى مصاف الإيقاعات الأكثر جماهيرية، لارتباطها بأسماء كبيرة على خلفية مناهضتها للتهميش والعنصرية، موضحاً أن مفردة "كناوي" لها أربع خلفيات لتأصيل تسميتها؛ النظرة الاستعمارية التي رعاها الفرنسيون، ودفعوا بفكرة أن السود في المغرب جاؤوا من دولة أفريقيا جنوب الصحراء، وبالأخص غينيا ولذلك اشتقت منها "كناوة"، أو القول إنها ترتبط باللغة الأمازيغية، حيث يسمى السود فيها بـ "أكناو"، أو أنها مشتقّة من كلمة "غنوة" بالعربية، لكن أهل المغرب يستبدلون حرفي الغين والجيم عند نطقهما بـ"كاف فوقها ثلاث نقط"، وهو ما يقود لطرح رابع يربط "كنوة" بـ "مجنون" مع نطق حرف "الجيم" مقلوباً. لكن عيدي يستدرك بأن أياً من هذه النظريات لم يتمّ تأكيدها إلى الآن.
تقاسمت موسيقى "كناوة" الخشبة مع "البلوز" و"الجاز" و"الريكي"، وغيرها، وغنّت مقطوعاتها فرق موسيقية من جميع أنحاء العالم. ورغم كل هذا الزخم، لم تحتك بها فئات اجتماعية عديدة في بلدان المغرب التي تختلف في تصنيف التراث "الكناوي" والتعامل معه. في الجزائر، يوضح عيدي أن هذا التراث يسمّى "بمبرا"، وفي تونس "اسطنبولي" ويحترفه التونسيون السود الذين استقدموا من عصور العبودية، وهؤلاء يستخدمون "الكناوة" بشكل خاص في المداواة من الصرع وممارسة السحر بحسب معتقداتهم.
غير أن الجزائر وتونس قمعا هذا الامتداد الحضاري بعد الاستقلال، بحسب عيدي، لخوف كلا البلدين من كون تلك المجموعات لها شيخ، ويمكن أن تتحول إلى حركة سياسية، إذ تتوافر على تراتبية أشبه بالحركات السياسية، أما "كناوة" في المغرب فكانت تجلياً لحالة صوفية موسيقية لم تتجاوز هذا الحد بدليل تسمية رأس المجموعة بـ"المعلّم" وليس "الشيخ" مثل نظيراتها في كل من الجزائر وتونس.
يكشف عيدي بأن في عُمان هناك تراث مشابه يسمونه "أزار"، وهو الاسم نفسه الذي يُطلق في اليمن على "موسيقى الأخدام". وحتى في مصر هناك تراث مشابه لدى موسيقى "أهل النوبة"، التي يقام لها مهرجان كبير في جنوب مصر ضمن فعاليات موسيقى "النيل".
هناك قواسم مشتركة عند من يمارسونها من أصول أفريقية وسبق أن تعرّض أجدادهم للاستعباد، لذلك هي قريبة فيما بينها من حيث المنشأ، ولفهم ارتباطها أكثر بالمغرب، يجب أن نتذكّر انفتاحه على أفريقيا بشكل أكبر، مقارنة ببلدان عربية أخرى.