هذا اليوم ما زال لي

23 يونيو 2019
ماغنوس بلاسن/ ألمانيا
+ الخط -

في نقاشٍ عن الموت ينقله الخطيب والمؤلّف الروماني سينيكا الأب (54 ق.م - 39 م)، ويستند إلى تصوير الشاعر الملحمي كورنيليوس سيفيروس لمجموعة من الجنود يستلقون على العشب عشية المعركة قائلين: "هذا اليوم ما زال لي"، بمعنى الانتصار للحظةِ الحياة الآنية في مقابل الموت المرتقب؛ يتفرّع الحديث إلى شقَّين: شقٍّ أخلاقي يتعلّق بـ الانهزامية التي تتضمّنها هذه الجملة وتعارضها مع عظمة الروح الرومانية التي يجب أن تكون الجملة المعبّرة عنها هي "الغد لي"، بمعنى الثقة بالنصر وتبجيل الموت الذي يقود إليه، أمّا الشقّ الثاني فهو لغوي يتعلّق باستخدام ضمير المفرد في قولٍ على لسان الجمع، حيث يعتبره بورسيلوس خطأً نحوياً، فيردّ سينيكا بأنه هو الذي يصنع جمال العبارة، فالجنود لم يتحدّثوا عن الموت كجوقة، بل تحدّث كلٌّ منهم بمفرده عن الموت الذي يهدّدهم كجمع.

لشقي القصة أعلاه (من كتاب "الجنس والفزع" لـ باسكال كينيار بترجمة روز مخلوف): الأخلاقي (السياسي)، واللغوي (الأدبي - الشعري) حضور دائم في الحياة والثقافة العربيتين، بل يمكن القول إن ملامح هذا الحضور تشكِّل ملامح حضورنا نحن في الحياة والثقافة العالميتين، والتأكيدُ على أثر هذا الحضور الآن هو أكثر وضوحاً من أي وقت سابق، وذلك بسبب دخول المنطقة العربية بمجملها، ومنذ عقد تقريباً في تاريخٍ آخر مضى، تاريخ الحروب ومفرداتها، وهو ما خلق حالة من البلبلة المنطقية تحتاج من كل قادر على التفكير إلى محاولة تفكيك وفهم وتأويل وشرح ما حدث ويحدث، وبالتالي ما سيحدث، دون أيديولوجيات مسبَّقة تدّعي معرفة طرق الخروج من النفق العربي الضيق الذي نحن فيه، والموجود أساساً ضمن نفق عالمي أوسع قليلاً.

احتاجت الحرب دائماً إلى سياق تبريري للقتل الكامن فيها، والذي سيعمَّم على أساس أنه لازمٌ لتحقيق أهدافها النبيلة، وإذا كانت للجريمة قاعدة تبريرية عضوية دماغية تتعلّق بفرد معين؛ إذ يمكن للفرد أن يكون مجرماً على اختلاف مستويات هذا الإجرام، نتيجة ضرر أو اختلال دماغي ما؛ فإن مسألة تبرير الإجرام الجماعي وتنسيبه أخلاقياً تتعلّق فقط بفضاء العقل والنفس (الثقافة والدين) ومدى حضورهما أو غيابهما وشكل هذا الحضور أو الغياب.

أيُّ مبتعدٍ قليلاً عن مركز تحيّزه التبريري يمكن أن يرى أنه لا وجود لحرب دنيئة أو ذات أهداف لاأخلاقية، كل الحروب أخلاقية من وجهة نظر منظِّريها ومعتنقي أهدافها المؤجّلة، والمستفيدين منها سياسياً ومالياً، وهؤلاء عادةً هم من يدير اللعبة، وبالتالي هم على علم بمكمن الخديعة وطرقها، إضافة إلى هؤلاء هناك من يقع عليهم عبء القيام بالحرب وإطعامها، أي من استعبدهم ساسة الحرب بالجهل والفقر، ولهؤلاء مرتبة أخرى، إذ يضمّون طيفاً متنوّعاً من الآراء التي وإن كانت تُجمِع في العلن على أخلاقية الحرب خوفاً من السلطات القائمة، إلا أنها في العمق تدرك الخديعة، أو على الأقلّ لا يتناسب لديها الألم الناتج عن الحرب والواقع على عاتق أفرادها مع المبرّرات المعلنة لهذه الحرب.

وأخيراً هناك مرتبة المثقّفين، وهم أيضاً طيف متنوّع يتداخل مع المرتبتين السابقتين، فمن جهةٍ هم صلة الوصل بين سادة الحرب وضحاياها، ومن جهة أخرى هم النفق بين الاثنين من خلال النفاق الأخلاقي المتحرّك منهم نحو السادة والقمع الفكري المتعالي المتحرّك نحو الضحايا، وهم أيضاً المتنفّعون حيناً والضحايا حيناً آخر.

ما سبق هو رسمٌ أوّلي لتعقيد وتشابك كبيرين لا بد أن يشكّلا سمة التفكير الجديد في الواقع الجديد الذي يتبادل المعلومات كما يتبادل الهواء، وهنا يحضر الشق الثاني للقصّة المذكورة في أوّل المقال، إذ يتنافى التشبيك والتعقيد اللازمان للفهم والتعاطي مع هذا الواقع الجديد مع لغةِ المباشرة والأحكام النهائية والشعارات الطنّانة التي وسمت عالمنا الحالي بمختلف أشكال الحكم فيه، سواء الديمقراطية منها أو الاستبدادية أو الملكية.

تحرير اللغة من الشعاراتية والأرثوذكسية الدينية (تسنين العقيدة القويمة أو الصراطية بمفردات جورج طرابيشي، وهي لا تتعلّق بدين محدّد دون آخر بل هي نصٌّ لاحق فُرض على نصٍّ مقدَّس بقوّة السلطة)، يعني فتح باب التأويل شديد العصف خلفه، البابِ الذي كلّما انشق قليلاً عبر التاريخ تمّ إغلاقه بعنف من طرف السلطات الدنيوية والدينية على اختلافها، لأنه يتعارض مع تعاضد السلطة - الدين الضروري لبناء حكم استبدادي راسخ.

كما أن إطلاق سراح اللغة وإعادة الاعتبار للتنظير فيها والاحتفاء بها يساعد على إدراج اللغة الشعرية في الحياة اليومية في حركة عكسية لما يحصل من جرِّ اللغة اليومية إلى الشعر كحلٍّ للهوّة بين الشعر والواقع، وبالتالي يفتح باب الحركة في الاتجاهين معاً، ممّا يساعد بدوره في الوصل مع الاستعارةِ في اليومي، أي مع الشعر الشعبي والأمثال الشعبية والزجل والعتابا وسواها من تجليات الشعر في الحياة اليومية، ونبذ "الابتذال" الذي وُسمت به هذه الحقول الخصبة من المعرفة الإنسانية من قبل ثقافة متعالية نابذة وذات بنية تراتبية هرمية تحتل فيها الهيمنة، المعرفية هنا، عمود الأساس.

اللغة نشاطُ العقل، وهي المكان الذي تتجلّى فيه حرية الإنسان وجبريته، والشعر باعتباره من أهم مصابّ ومنابع هذا النشاط العقلي المتفرّد، فإن التنظير فيه وفي علاقاته مع الدين، خاصة الدين الإسلامي الذي تُعدّ اللغة معجزته الأساسية، والبحث في ما آلت إليه الثقافة الإسلامية وأحوال العالم العربي وعلاقة ذلك بإغلاق باب التأويل اللغوي في القرآن، يكتسب أهمية كبيرة توازي أهمية دراسة الأسباب السياسية المباشرة والاقتصادية عن هذه الحال.

لا بد من ملاحظة أن لجملة "هذا اليوم ما زال لي" معانيَ أخرى خارج المعنيَين السابقين المذكورين في القصّة، أحدها الأمل الكبير في الغد من خلال إحداث أثر في الآن يغيّر من يقينات المستقبل التي يُعد الموت واحداً منها.


* كاتبة من سورية مقيمة في برلين

المساهمون