هدية مرفوضة من فيروز

19 يناير 2016

فيروز ... رافقتنا في كل مراحل مدّنا وجزرنا

+ الخط -
متى ستسأمنا فيروز؟ كثيراً ما يراودني هذا السؤال، كلما فاجأتنا سيدة الملائكة بأغنية جديدة، ثم أتبعه بسؤال آخر: متى ينتهي رهان فيروز على تحويلنا إلى كائنات ضوئيةٍ تسبح في الفضاء البعيد؟
وقد تجدّد هذ السؤال ثانية، على رأس هذا العام، حين آثرت فيروز أن تخرج من عزلتها الطوعية، لتقدم لنا هديةً نحتفل بها في السنة الجديدة، عبر مقطوعة قصيرة، تساءلت فيها عمّا يخبئه لنا العام الجديد من مفاجآت. ولم تنس ملكة الرومانس أن تضفي كل تلك الطقوس الساحرة على مقطوعتها الصغيرة، من شمع وورد وليل خافت، لتضعنا من جديد في خضم تلك الحيرة التي عوّدتنا عليها، منذ مشت غريبة في (شوارع القدس العتيقة).
أتساءل بجدية: هل نستحق فيروز؟ أم لعلّي أطرح السؤال على نحو مغاير: على ماذا تراهن فيروز، وهي تسكب في عروق صباحاتنا دماً أبيض من ذلك الملاك المحلّق في حنجرتها، إلى حدٍّ بتنا معه لا نعترف بأي صباح من دون صوتها، وإلى حدٍّ راحت تفرد فيه إذاعاتنا وقتاً مخصصاً لفيروز، مع إطلالة كل صباح.
كنت أخمّن أن الملائكة كائناتٌ شفافةٌ سهلة العطب، لكن فيروز ما تزال تبرهن أن من الملائكة من يمتلك إرادةً تفوق إرادة البشر كلهم، ذلك أن فيروز عصيّةٌ على اليأس من أمتها، لأنها لا تنكفئ بعد انتهاء أغنياتها، ولا تفقد الأمل، وهي ترى أن الحب الذي ملأتنا به سرعان ما يتبخّر مع أول اختبار عاطفي نتعرّض له، فإن رأينا عاشقيْن في الشارع سرعان ما نلقي فيروز جانباً، ونعلن حالة الطوارئ، وإذا رأينا حبيباً يحمل حبيبته ويقبّلها، اهتزت شواربنا، وأطلقنا دويّ صفارات الإنذار، واستدعينا الجيش لفض "الاشتباك".
على المنوال نفسه، نخفق، أيضاً، عند أول اختبارٍ سياسي، فإن طالبنا ببعض الحرية، سرعان ما تتبخر الحالة الفيروزية من دم المحقق، ويتحوّل إلى وحشٍ كاسر، وإذا طالبنا بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وضعونا فوق خازوق، على اعتبار أن هذا هو مكاننا "المناسب".
أدعياء نحن، كلما ادّعينا حبّنا فيروز، لأن فيروز لم تكن تريد السكنى عند نقطة تماس صباحية، تلمس فيها قشور قلوبنا، بل كانت تريد أن تتغلغل إلى مساحة لاوعينا، لتطهّره من أدران الانفصام الذي نعيشه بين نفق القبيلة وفضاء المدينة، بين رغبتنا في أن نكون عشاقاً، ونقمتنا على أنفسنا حين نصبح عشاقاً، كانت تريد لنا أن نتبع صوتها إلى سطح "ديمةٍ سكوب"، لكننا في كل مرة، كنا ننسلّ من صوتها الكونيّ، لنعود إلى خوارنا الذاتي.
رافقتنا فيروز في كل مراحل مدّنا وجزرنا، وغنّت لعواصمنا، وأفردت لفلسطين، عقب هزيمة الأيام الستة، باقة لا تُنسى من أغنياتها، غير أنها سرعان ما عادت إلى انكفائها، بعد أن شعرت بأن أجراسها لم توقظ هذه الأمة على فجيعتها، ثم سلكت طريق الحب، بوصفه احتجاجاً على الردّة الجاهلية التي أصابت الأمة، مع طول أمد هزائمها واضمحلالها الحضاري، وأحيت القصائد الأندلسية، في محاولةٍ منها لتذكيرنا بأمجادٍ غابرة.
وفي مرحلة تالية، بحثنا معها عن (شادي)، للقبض على نصفنا الضائع، ودعتنا إلى قهوتها البحرية، لنفتش عن أحبةٍ نمسك بأيديهم، ولا نجدهم، وأقنعتنا، ذات مسرحيةٍ، بأن ثمة قطاراً غير موجود سيصل قريباً إلى قريتنا، يحمل الوعد بالحرية.
غير أن القطار لم يصل، يا فيروز، و(شادي) فقدناه إلى الأبد، وليتك تمهّلتِ قبل الخروج من عزلتك الأخيرة، لتري أن الذي وصل فعلاً قطارات تحمل مزيداً من الاستبداد وإخفاقات الربيع العربي.
لو كنتِ تأنّيْتِ قليلاً يا فيروز، لعرفت أن صوتك فقد صداه، بعد أن طردت شياطين الأنظمة و"الدعشنة" كل ملائكة الحب من بلادنا.
وبعد.. قديماً طلب منك نزار قباني، بحدسه الشعري، التمهّل، معتذراً منك لأن (أجراس العودة لن تقرع)،.. وها نحن، أيضاً، نطلب منك التريّث، قبل أي رهان آخر علينا، معتذرين عن رفض هديتك الجديدة.


EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.