هدم حلب... النظام يهجّر آلاف الناجين من الحرب

06 فبراير 2019
المبنى الأخير الذي انهار (جورج أورفليان/ فرانس برس)
+ الخط -

التهجير
يعود مجدداً إلى حلب، وهذه المرة بذريعة "الخوف على السكان"، إذ وجه النظام إنذارات بإخلاء آلاف المباني المهددة بالانهيار، غالبيتها في الأحياء الشرقية للمدينة، مع ما يخفي ذلك من نوايا تفريغ للمنطقة

يتواصل الموت في أحياء مدينة حلب، بالرغم من مرور أكثر من عامين على انتهاء عمليات القصف والحصار، إذ سيطرت القوات النظامية على المنطقة، وعاد آلاف النازحين للسكن في ما تبقى من منازلهم، لكنّ الموت يلاحقهم الآن من جراء انهيار المنازل على رؤوسهم، مع عدم رفع أنقاض القصف من فوقها، في الوقت الذي لا يبدو فيه النظام جاداً بخصوص صيانتها. أغفل النظام طويلاً واقع المنطقة المأساوي، بمبانيها المهددة بالانهيار منذ سيطر عليها. لكن، بعدما فقد 11 شخصاً، من بينهم أربعة أطفال، حياتهم جراء انهيار المبنى الذي يسكنون فيه، في حي صلاح الدين (جنوب غربي حلب)، نهاية الأسبوع الماضي، وجد النظام في الحادثة فرصة لإصدار قرار يقضي بتهجير نحو 4 آلاف عائلة، وهدم 10 آلاف مبنى (أكثر من 7 آلاف مبنى منها في أحياء حلب الشرقية) قد تكون الدفعة الأولى، في ظل احتمال اتساع خريطة المباني القابلة للسقوط، جراء عدم ترميمها، و"عدم صيانة شبكات الصرف الصحي والمياه فيها"، والنقطة الأخيرة هي ذريعة النظام للإخلاء.




وكان محافظ حلب، حسين دياب، قد ذكر في تصريح صحافي أنّ اجتماع طارئاً عقد يوم الأحد الماضي، بحضور رئيس مجلس المدينة، معد المدلجي، والمعنيين بمجلسي المحافظة والمدينة ونقابة المهندسين وجامعة حلب، خصص لمعالجة ملف المباني المهددة بالسقوط، والتي تتحول شيئاً فشيئاً إلى ظاهرة أودت بالعديد من سكان الأحياء الشرقية والجنوبية من حلب، ومنهم 11 شخصاً قضوا أخيراً بانهيار بناء بحي صلاح الدين. وتمخض عنه بعد دراسة أسباب الانهيارات تشكيل لجان متخصصة لمعالجة الملف الشائك والمؤرق بشكل جذري. وأشار دياب إلى أنّ المعلومات الأولية تؤكد وجوب إجلاء أكثر من 4 آلاف عائلة عن مبانيها شبه المدمرة بسبب الأعمال الانتقامية الإرهابية في أحياء مثل صلاح الدين (جنوب غرب حلب) والأنصاري (غرب حلب) والشعار وسد اللوز والفردوس والصالحين (شرق حلب)، ويصل عددها إلى نحو 10 آلاف بناء، الأمر الذي يتطلب موافقة جهات وصائية على قرار الإخلاء "غير القانوني"، لكنّه يبعد خطر الموت عن الأهالي، كما قال. وتقرر في الاجتماع تشكيل ست لجان متخصصة بالإخلاء وتحديد درجة خطورة المباني، ومثلها للإشراف على إجلاء الأسر.

مشهد مؤلم من الحادثة الأخيرة (جورج أورفليان/ فرانس برس) 












ذرائع

يتخوف السكان من أن تكون قضية انهيار مبنى صلاح الدين هي الذريعة التي سيتخذها النظام لإجبارهم على إخلاء بيوتهم من دون معرفة مصير تلك البيوت التي يخشى أصحابها من أن تتملكها شركات تطوير عقاري تحرمهم من العودة إليها بشكل نهائي مثلما يحصل حالياً في أكثر من منطقة سورية، مثل منطقة جنوب دمشق ومخيم اليرموك وأنحاء من حمص، في موازاة صدور مراسيم للتنظيم المدني بشكل تنشئ مشاريع سكنية فاخرة على حساب العشوائيات والأحياء الفقيرة تاريخياً.

من جهته، يستبعد المهندس المدني، محمد ساري السيد علي، أن يكون تسرّب المياه سبباً في الانهيار المتكرّر للمباني، مؤكداً أنّ هذا الأمر مستبعد بنسبة 95 في المائة، بسبب عدم وجود أي مستنقعات مائية في تلك المناطق. يقول السيد علي لـ"العربي الجديد": "جزء كبير من المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة بحلب وشهدت قصفاً وعمليات عسكرية هي أصلاً مناطق مخالفة ولم يجرِ بناؤها وفقاً للمعايير الفنية، إذ تقوم على وضع أحجار (بلوك) ويصب الإسمنت المسلّح فوقها لتصبح جاهزة للسكن". يضيف: "للحصول على إجابة دقيقة عن المبنى الذي انهار قبل أيام، فلا بدّ من إجراء كشف فني لمعرفة التفاصيل التي أدّت إلى ذلك".

وللتأكّد من وجود تسرّب للمياه تحت المباني، فإنّ ذلك يحتاج إلى قياس عمق يتراوح بين 10 أمتار و50 متراً، يضمن التحقق من وجود المياه أو عدمه، وفقاً للمهندس. يتابع: "الرواية الأقرب للواقع أنّ هذه المباني كانت أصلاً مخالفة وغير خاضعة للشروط والمواصفات الفنية اللازمة، ثم جاءت المعارك والقصف بالبراميل المتفجّرة، التي كانت شديدة القوّة وأسفرت عن هدم مبانٍ، كما جعلت المباني الصامدة غير صالحة للسكن". يوضح أنّ هذا الأمر لا يقتصر على مدينة حلب بل قد يظهر في مدنٍ سورية أخرى تعرضت للقصف. ويلفت إلى أنّ عودة المدنيين للعيش في هذه المباني وتحميلها حمولة زائدة كالمياه والوقود والاستخدام اليومي، جعلتها غير مستقرّة فانتقلت من حالة السيئ إلى الأسوأ وصولاً إلى مرحلة الانهيار.

كما يشير السيد علي إلى أنّ المباني، في غالبها، تعطي إنذاراً قبل الانهيار، يمكن التعرف إليه من خلال إجراء عملية "الكشف الحسّي" على المبنى. يتابع أنّ المباني تنقسم إلى نوعين، إمّا حجر حمّال (من دون أعمدة)، أو أعمدة (بناء هيكلي)، فإذا كان المبنى حجراً حمّالاً، تظهر تشققات طولية وعرضية عليه، ويتراوح حجمها ما بين ملليمتر واحد وصولاً إلى 10 سنتيمترات، موضحاً أنّ هذا النوع من التشقّقات يشير إلى أنّ المبنى غير صالح للسكن إطلاقاً. أما إذا كان المبنى هيكلياً قائماً على الأعمدة، فأثناء الكشف الحسي يتضّح أنّ إحدى الدعائم الأساسية متشققة أو قابلة للانهيار، وفي هذه الحالة يتم إجراء كشف حسي لمعرفة إن كانت التشققات قابلة للترميم، وهل يمكن أن تتوقف عند حد معيّن أم ستزداد، لافتاً إلى أنّ معظم المباني في هذه الحالة سوف تتفاقم حالة التشقّق فيها خلال الاستخدام المدني لها.




جريمة جديدة
محمد طراب، من سكان الأحياء الشرقية لحلب، يقول لـ"العربي الجديد": "هناك الكثير من المساكن التي تضررت بسبب قصف الطيران الروسي وطيران قوات النظام لأحياء حلب، قبيل سيطرته عليها، وهناك الكثير من المباني هي فعلاً آيلة للسقوط، لكنّ السكان، وأنا واحد منهم، يغامرون بحياتهم ويسكنون فيها لسببين؛ الأول أنّنا لا نثق بأنّ تسليم بيوتنا للنظام سيمكّننا من العودة إليها لاحقاً، ولا نعلم ما الذي يخطط له في ما يخص بيوتنا، خصوصاً أنّنا شاهدنا كيف جرى تهجير عدد من سكان دمشق من بيوتهم بحجة المخططات التنظيمية، والسبب الآخر أنّنا لا نثق بأنّ النظام سيؤمّن لنا سكناً بديلاً، ما يعرضنا إلى خطر التشرد، والسكن في خيام، بدلاً من بيوتنا".

من جهته، يعلق رئيس "مجلس محافظة حلب الحرة" إبراهيم تركي خليل، على تبعات قرار النظام بخصوص عمليات هدم آلاف المباني في أحياء حلب، لـ"العربي الجديد": "هي جريمة جديدة تُضاف إلى جرائم النظام، ومن المؤكد أنّ النظام يهدف إلى طمس المعالم في المدينة، وإضاعة حقوق الناس الذين هجّرهم قسرياً من منازلهم وأحيائهم في مدينة حلب".

وعن تبعات القرار على الأهالي والضمانات التي تمنع النظام من تركهم بلا مأوى، يقول خليل: "من المفترض أن تكون هناك ردود أفعال دولية على ممارسات النظام الجديدة بحق أهلنا المهجّرين من حلب، وممتلكاتهم، لأنّ هذا النظام لا يمكن أن يتبنى إعادة الإعمار، لأنّها لا يمكن أن تبدأ قبل التسوية السياسية التي تضمن رحيله". بدوره، يقول مدير المكتب الإعلامي لـ"مجلس محافظة حلب الحرة" أبو ثائر الحلبي، لـ"العربي الجديد": "لا يسعنا في الوقت الراهن إلّا مطالبة الهيئات والمنظمات الحقوقية والدولية والإنسانية بتسليط الضوء على هذه الجرائم التي يرتكبها النظام".

آثار القصف رهيبة (جورج أورفليان/ فرانس برس) 












إهمال متعمّد

يتخوف كثير من أهالي الأحياء الشرقية من تبعات القرار بهدم الوحدات السكنية في أحيائهم، إذ لا حديث عن مساكن بديلة لهم في الوقت الحالي. ويعلق، مجد حلبي، لـ"العربي الجديد" قائلاً: "النظام يقول إنّ المسؤول عن انهيار هذه المباني هي كتائب المعارضة المسلحة التي كانت تفخخ المباني وتستهدفها، لكن، في المقابل، شهد العالم أجمع كيف كانت طائرات النظام المروحية تقصف بالبراميل المتفجرة الأحياء الشرقية في مدينة حلب، وكيف كانت الطائرات الروسية تستهدف هذه المباني".

يضيف: "النظام هو السبب وراء انهيار هذه المباني، فقبل عام 2011، كنا نعاني لإصدار تراخيص البناء، خصوصاً في هذه الأحياء، فكانت رخصة البناء تتطلب مبالغ مالية كبيرة، واستخراجها يحتاج إلى أوراق ومراجعات طويلة ترهق السكان، وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار مواد البناء بشكل كبير في الأعوام الأخيرة قبل الثورة. وعند الحصول على الترخيص كان كثير من تجار البناء يخالفون الترخيص، فلا جهات مشرفة من النظام على عملية البناء وهو غير مهتم أساساً بسلامة أو صلاحية المباني، فمن كان يحصل على رخصة بناء لتشييد مبنى من ثلاث طبقات، كان يبني خمس طبقات، وفي كثير من المباني يعتمد على الحجر في البناء من دون الأعمدة الإسمنتية وغيرها، لكنّها كانت تفي بالغرض، ولم تقع انهيارات في ذلك الحين". يردف: "لكن، بعد القصف والغارات الجوية والصواريخ التي تعرضت لها الأحياء الشرقية في حلب، تأثرت المباني بشكل كبير، فحتى إن كان المبنى مجهزاً ومدعّماً لن يتحمل هذا الكم الهائل من القصف والصواريخ الارتجاجية، وبالتالي، سينهار في أيّ وقت إن كان متصدعاً من جراء القصف".




يتهم العديد من الناشطين، في أحاديث إلى "العربي الجديد"، النظام بالإهمال المتعمد لأحياء شرق وغرب مدينة حلب، خصوصاً لجهة عدم رفع الأنقاض عن المباني بالإضافة إلى ترك المياه تغمر أساساتها، لا سيما في مناطق السكن العشوائي كصلاح الدين والصالحين، ليسهل عليه إخلاؤها من سكانها وهدمها، في مقدمة لوضع يده وأيدي المتنفذين فيه عليها.

وكانت دراسة سابقة لمجلس مدينة حلب، أفادت أنّ أكثر من 85 في المائة من مباني حلب متعددة الطبقات، متصدعة، وأكثر من 80 ألف مبنى منها معرض للانهيار في أي وقت.