هجرة من الجنة

26 سبتمبر 2016
+ الخط -
على العالم إدراك أن معضلة الهجرة واللجوء تتجاوز قضية الهجرة غير الشرعية، فهذه ليست سوى تجسيد للعجز عن القيام بالهجرة بشكل قانوني، وبوسائل مشروعة. فيتم اللجوء إلى الأساليب الأخرى، حتى وإن كانت تكلفتها، ونسبة المخاطرة فيها عالية، إلى درجة التضحية بالنفس، في مقابل احتمال النجاة والوصول إلى حياةٍ أفضل. لخص هذه المعادلة شاب عربي، فشل في اللحاق بموجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، عندما قال ساخراً إن الموت هو أسوأ ما يمكن أن يحدث له في أثناء الهجرة عبر المتوسط، مستطرداً إنه في بلده "ميت وهو حي"، فما المشكلة إذن؟.
لا تدرك حكومات الدول المصدّرة للهجرة أن هذه المعادلة صارت حاكمةً نمطَ تفكير، وبالتالي سلوك، شباب عرب وأفارقة كثيرين، بل وكذلك عائلات بأكملها. والأخطر أن حكوماتٍ كثيرة كانت سبباً مباشراً وجوهرياً فيما آلت إليه أوضاع مجتمعاتها، تعمى أو تتعامى عن مسؤوليتها، بل وتعتبر محاولات الهجرة إلى الخارج، شرعية أو غير شرعية، ضرباً من الجنون، كما لو كان هروباً من الجنة. وفي أقل تقدير، هي خيانة أن يهاجر المرء باحثاً عن مستقبل أفضل خارج وطنه، بينما ملايين من أقرانه يقبعون داخل ذلك الوطن، طوعاً أو قهراً.
لذا، يُنظر إلى هؤلاء المهاجرين، حال توقيفهم قبل المحاولة أو عند استعادتهم من الدول المستقبلة، نظرة تحقير واستنكار، باعتبار أن الخروج من الوطن، والتطلع إلى العيش في مكان آخر، جريمة أخلاقية، أكثر منها جنائية، أو خرقاً للقوانين. ذلك على المستوى الرسمي، أما في النطاق المجتمعي، فإن المهاجر "فُتحت له أبواب السماء"، ويحسده الناس على ما ناله من حظ عظيم. أما من أخفق في الهجرة، فيستحق المواساة والموآزرة، ليس فقط لفقدانه أموالاً تكبّدها من أجل رحلة العمر. لكن، بالأساس لضياع فرصةٍ قد لا تتكرّر، لأن يبدأ حياة جديدة، هو فيها "إنسان"، حتى وإن كان لاجئا.
هذه القناعات السائدة لدى شعوبٍ يسعى أبناؤها إلى الهجرة، صعبٌ إلى حد الاستحالة تغييرها بحملات إعلامية، أو بلافتاتٍ في الطرق العامة، تقول لمن يفكر في الهجرة "وطنك أولى بك"، إلى آخر تلك الشعارات الجوفاء. فالدافع إلى الهروب من الوطن أنه صار مكاناً لا يجسّد أياً من معاني الوطن.. ونقطة البدء في استعادة موجات الشباب المتفلت من أوطانه أن تعترف الحكومات بما لديها من تاريخٍ طويل، حافل بالأخطاء والخطايا في حق شعوبها، من أجيال سابقة، وصولاً إلى أولئك الشباب. والمسؤولية تراكمية متصلة، حيث الحكومات الحالية مستنسخةٌ من أسلافها، المنسوخة بدورها من أخرى سابقة. وهكذا في متوالية متكررة منذ عقود. ولا معنى هنا للتذرّع بأن الوضع متراكم، وأن التركة ثقيلة وممتدة، وغير ذلك من حجج التنصل من المسؤولية ومبرّراته، سوى أن تغييراً في السياسات، أو التوجهات، ليس منتظراً في الأفق المنظور.
على الضفة الأخرى، تكتفي الدول المستقبلة للمهاجرين بإيوائهم، وحين تزداد الأعداد وتتفاقم الأعباء، يتم العمل على تقليل أعداد المهاجرين، بوسائل متعددة. وصلت إلى حد تسيير سفن تجوب البحار لضبط المهاجرين، وإعادتهم إلى بلدانهم. ولم يحدث يوماً أن بادرت الدول المستقبلة للمهاجرين إلى حَثّ حكومات الدول المصدّرة على تعديل سياساتها الداخلية، وتحسين أوضاع مجتمعاتها المُتردية اقتصادياً وخدمياً. وذلك لمعالجة ظاهرة الهجرة من جذورها، وليس الاكتفاء بمواجهة تداعياتها، عندما تصل موجاتها إلى الشاطئ الآخر. بعد أن أثبتت التجربة أن تلك المواجهات المتأخرة والعلاجات الشكلية تزيد الأمور تعقيداً، حتى تبلغ حداً لا يصلح معه تجميلٌ أو تطويق، وعندها سيكون على الجميع مواجهة تسونامي لن يذر أحداً على الضفتين.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.