في محطة قطارات العاصمة المجرية بودابست، كان عبد الرحمن الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، يقف إلى جانب أخيه الأصغر عمر ويبكيان. وبينما راح مصوّران صحافيان يلتقطان صور بكائهما، قال عبد الرحمن: "فقدنا أمي... ضاعت أمي منا". حدث ذلك في السادس من سبتمبر/ أيلول الماضي.
وسط الجلبة والفوضى، كانت والدتهما قد ظنت أنهما استقلا معها القطار المتوجّه إلى النمسا، على أمل الوصول إلى ألمانيا. وبينما كانا يسردان قصتهما، اقترب رجل سوري من دير الزور مع زوجته وأولاده الثلاثة وراح يهدئ من روع الصغيرَين. قال: "لا تقلقا. عرفتكما. كنتما مع أمكما أمس تحت (مشيراً إلى أسفل المحطة). الآن ترافقاننا إلى حدود النمسا في القطار المقبل، ولا بدّ من أن والدتكما تنتظركما هناك". وفي حين كان الصغيران محظوظَين لأن أبو علي الديري كان في الجوار وعرض مرافقتهما، إلا أن كثيرين هم الأطفال الذين لا يحالفهم الحظ.
هناك، في ساحة محطة بودابست الخارجية، كان بعض الأهالي يبحثون عن أولادهم الذين تاهوا عند الحدود الصربية. وكان المغترب الأردني في المجر ياسر عمير يقف مع رجل حضر من فرنسا بحثاً عن ولده. في ناحية أخرى، كان رجل دمشقي يسأل بعض الموجودين في المكان إذا كانوا قد لمحوا ابنتَيه.. "أضعتهما عند الحدود، وهما لا تملكان النقود وهاتفهما مغلق". كان قلقاً جداً وكذلك زوجته، في حين كان طفلاه الصغيران مرعوبَين لا يفهمان كيف تاهت الأختان.
ويُسجَّل تزايد في حالات القصّر الذين يبلغون بلدان اللجوء في أوروبا الغربية والشمالية، وإن لم تتشابه قصصهم وقصص هؤلاء الذين تاهوا عن أهاليهم في رحلة اللجوء الطويلة من داخل سورية وعبر مسالك الهجرة نحو أوروبا التي باتت معروفة. ويمكن الحديث عن مئات وآلاف ممن تعدّهم القوانين الأوروبية أطفالاً وقصّر دون الثامنة عشرة، يخوضون تجربة اللجوء ويتقدّمون بأنفسهم أمام سلطات البلدان المعنيّة كطالبي لجوء.
في محطات عبور (ترانزيت) البلدان الشرقية، لا سيما في صربيا والمجر، نلاحظ أن هؤلاء الأطفال ليسوا من سورية فحسب. ثمة صغار يتوافدون من العراق وأفغانستان وإيران، وينظمون أنفسهم في مجموعات وكأنهم بالغون. ترى بعضهم وهم يتناقشون مع الصحافيين حول طرق خروجهم، قبل أن يطلبون منهم التقاط صور جماعية لهم. وعدد كبير من هؤلاء الأطفال الذين التقتهم "العربي الجديد" يجمعون باختلاف جنسياتهم على أنهم سيحصلون على الإقامة ويطلبون انضمام أهاليهم إليهم. إلى ذلك يعترف بعض هؤلاء بأن أهاليهم هم الذين تحملوا كلفة رحلة الهجرة واتفقوا مع مهرّبين ليتمكنوا من عبور الحدود. وثمّة آخرون من أفغانستان وإيران يرفضون تسميتهم بالأطفال والقصّر، ويعدّون أنفسهم بالغين وقادرين على ترتيب أمورهم بعد رحلتهم الطويلة.
في السنوات العشر الأخيرة، شهدت الدول الإسكندنافية زيادة كبيرة في أعداد القصر الوافدين من دون أولياء أمور. بحسب أرقام رسميّة، فإن أكثرية هؤلاء هم أفغان، بنسبة تتجاوز النصف، يتبعهم العراقيون والإيرانيون ومن ثم السوريون. وفي الدنمارك على سبيل المثال، شكلت الفئة العمرية 12-14 عاماً نسبة 16 في المائة من الوافدين، وفئة 15-17 عاماً نسبة 79 في المائة.
إلى ذلك، تُعدّ السويد وفق أرقام رسمية أوروبية لشهر أغسطس/ آب المنصرم، البلد الأوروبي الأول لجهة استقبال أطفال مهاجرين من دون أهل، مع نسبة 29 في المائة، لتليها ألمانيا مع 18 في المائة من طالبي اللجوء الصغار. وقد شهد شهرا أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول دخول نحو 50 طفلاً يومياً إلى مدينة مالمو، جنوب السويد. وبالمقارنة مع الدنمارك التي دخلها في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري نحو 300 طفل، استقبلت السويد في الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام ستة آلاف و432 طفلاً. وقد انضم إلى هؤلاء مئات في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/ أيلول، بعد موجة وصول آلاف المهاجرين عبر ألمانيا والدنمارك.
في السياق نفسه، ترى السلطات السويدية أن دخول أعداد كبيرة من الأطفال إلى البلاد من دون أهل، أمر يحمّل المعنيين مسؤوليات مضاعفة. وفي حال قورنت هذه الأرقام بتلك التي كانت تسجّل في منتصف الألفية الماضية مع نحو 400 لاجئ قاصر، فهذا يعني ضغوطاً كبيرة على بلدية مالمو تحديداً. هذه المدينة هي الأقرب إلى خط اللجوء عبر الدنمارك.
ويعاني السويديون من ضغط هذا التزايد الذي يفترض وضع قانون لتحديد أعمار هؤلاء من خلال فحوصات طبية، إذ ثمّة فرق في التعامل بين من هم دون الثامنة عشرة والأكبر سناً، لجهة المعاملات المتعلقة بقضايا طلبات اللجوء. القوانين في أكثر دول الشمال تفرض البحث عن أهالي هؤلاء في بلدانهم الأصلية بالتعاون مع منظمات مختصة في هذا المجال، وهو أمر يتطلب أيضاً موازنات كبيرة تعدّ عبئاً على البلديات وخصوصاً مالمو.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، أبدت السلطات السويدية وكذلك الدنماركية قلقها البالغ إزاء اختفاء عشرات الأطفال طالبي اللجوء من دون أهل. وجرى التركيز إعلامياً على اختفاء 60 طفلاً دفعة واحدة بالإضافة إلى 20 في حالة أخرى في مالمو.
وأطلقت إيفا غون فيسترفورد من دائرة الهجرة السويدية في 17 سبتمبر/ أيلول إنذاراً إذ إن "ثمّة خشية من أن يكون وراء اختفاء هذه الأعداد من الأطفال، عملاً إجرامياً منظّماً، من خلال شبكات الإتجار بالبشر أو مرتبط باعتداءات جنسية". ويُعدّ هذا الإنذار جدياً في البلدَين الإسكندنافيَين نظراً لما شهداه من اختفاء متزايد لهؤلاء الأطفال وبطريقة مثيرة للريبة. وكانت الموظفة في دائرة الهجرة السويدية رحاب هجريزي قد صرحت في حديث إلى صحيفة محلية في مالمو، أن "بعض الأشخاص قد يتوجهون إلى معسكرات اللجوء ويجمعون الأطفال بحجة أنهم متطوعون ويصطحبونهم في السيارات، قبل أن يختفوا. ولا نعرف إذا كانوا يختفون داخل البلاد أم يذهب بهم هؤلاء نحو الخارج". وتخشى دائرة الهجرة السويدية من عدم تسجيل البعض هؤلاء الأطفال كطالبي لجوء بعد وصولهم إلى السويد، بحجة أنهم يرغبون في مساعدتهم. هم بذلك يخالفون القوانين، بغضّ النظر عن دوافعهم".
اقرأ أيضاً: أزمة المهاجرين تتفاقم في أوروبا
تجدر الإشارة إلى أن حالة الاختفاء الأكبر وقعت يومَي 16 و17 سبتمبر/ أيلول، لمجموعة من القصّر الأفغان وصل عددهم إلى 63 قاصراً، من دون أن تعرف السلطات إلى أين ذهبوا. وراحت الشرطة السويدية في مالمو تسيّر دوريات على مقربة من معسكرات اللجوء التي تحتوي على قصّر، منعاً لعمليات "جلب هؤلاء الأطفال والتحجج بمساعدتهم" بحسب ما جاء في بيان لشرطة سكونا في جنوب السويد.
وعلى الرغم من هذا القلق الرسمي السويدي (يسار وسط ويمين وسط)، إلا أنّ حزب "ديمرقراطيي السويد" اليميني المتشدد يرفض الاعتراف بأن هؤلاء الأطفال قصّر، ويدّعي أن "ثمّة تلاعباً بأعمارهم لاستغلال القوانين والحصول على إقامات، ومن ثم طلب لمّ شمل أهاليهم". من جهتها، تذهب صحافة اليمين في الدنمارك وبتلميحات سياسية إلى حدّ وصف هؤلاء القصّر بأنهم "مشاغبون ومجرمون يخرّبون أماكن إيوائهم ويرمون أوساخهم في كل مكان". ويأتي ذلك في محاولة لحشد رأي عام معارض لوجود طالبي اللجوء واتهامهم بأنهم "أُرسِلوا إلى البلاد لاستغلال قوانينها"، بحسب ادعاءات أقطاب يمينية متطرفة.
بغض النظر عما إذا كانت النسبة الأكبر من طالبي اللجوء هؤلاء هم قصّر دون الثامنة عشرة أم غير ذلك، فإن خبراء في علم النفس يعدّون أن هجرة الأطفال برفقة أهاليهم تجربة نفسية قاسية جداً قد تخلّف صدمات عند هؤلاء لبقيّة العمر، فكيف إذا كان الأطفال "مُرسلين أو غادروا أوطانهم من دون أهلهم". ويستند هؤلاء إلى تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تبيّن أن المهاجرين القصّر من دون أهل يختبرون أقسى التجارب على الإطلاق. ويعدّ المرور ببيروقراطية دراسة الطلبات والتعرّض للمساءلة والفحوصات والتشكيك الدائم في السنّ الحقيقية، مع ما يرافق ذلك من تقارير إعلامية عنهم في الإعلام يشاهدونها مع أطفال آخرين، كلها أمور قد تكون معيقة لتأقلم الأطفال مع المحيط الجديد والاندماج السريع والبحث عن طمأنينة، بحسب ما يؤكد الخبراء.
اقرأ أيضاً: الهجرة إلى أوروبا.. هل هي الأزمة الأسوأ تاريخياً؟