هاشم يوسف.. قصائد مضادّة لليقين

02 يناير 2015
+ الخط -
تحمل مجموعة هاشم يوسف الشعرية، "جدول الوصايا"، "الصادرة أخيراً عن "منشورات كافكا" (القاهرة)، كثيراً من سِمات موجة الكتابة السودانية الجديدة التي ظهرت في بداية الألفية، وبلغت ذروتها قبل نهاية العقد الأول منها. فالشاعر المولود في نيالا غرب السودان (1982) ظلّ وفيّاً، في كتابه الذي يضمّ 25 نصَّاً، للُّغة المتفجِّرة ذات الصور الحادَّة والواضحة التي لا مكان فيها لمواقف رمادية أو مُهادنة.

صفاتٌ طبعت، مع غيرها، كتابةَ جيل تفتَّحت عيونه في التسعينيات، ليجد قبضة فولاذية لمفاهيم مظلمة احتاج الإفلات منها صلابةً وسَمَت لغة الناجين، وتذمُّراً وتهكّماً قاتماً على كل شيء.

ليست لغة هاشم يوسف تعبيراً عن موقف فقط، بل إنها أحياناً تكون نفسها موقفاً. هذا غير أنها في الديوان كلّه تأخذ القارئ إلى منحنيات وعرة، وصولاً إلى أحوالٍ تتباين في صعود وهبوط مفاجئيْن: "الكتبُ مقلوبةٌ على القرّاءِ/ يئنّون تَحتَها/ لا تنبري الخُلاصةُ الذهبيَّةُ لتمدَّ لهم يَدَاً/ افعلها يا ذراع الجهل الطويل/ ففيك كَمْ نوحٍ/ وعِدَّة سُفُنٍ مضادَّةٍ للحروف".

في "جدول الوصايا"، يعيد هاشم، تدوير اللغة الدينية ورموزها، لينتج صوراً وسيناريوهات غير تلك التي ترسّبت في وعي جيل الثمانينيات، بسبب الحالة "اللايوتوبية" إن صحّ التعبير، التي رزح تحتها ذلك الجيل، وهو يتعرّض لتأثير ديني مكثّف من منصّتي الإعلام والتعليم طوال سنوات التكوين: "أتَجَوَّلُ بَيْنَ المَلائِكَةِ السَّاجِدين/ لَم يكن آدم حَتى يَنْظُر إليهم/ كانَ فرعاً مِن الرَّبِّ لحْظَتَها/ يسجدونَ مِنْ وَحْيِ جُثَّته وَلا يَسْمَعهُم أو يَرَاهُم/ أو حتَّى أنّه لا يظنَّهم ساجدين".

لكن المقدّس يستحيل لديه، مرَّة، إلى هَزْلٍ تراجيدي، حين يحاول إعادة تعريف الأشياء بما يعرِّي احتمالاً آخر من احتمالات حقيقتها: "كَانَ وَقْتَاً بَاهِتَاً/ المَسَاءُ أحْمَرُ/ وَالشَّمْسُ سَاجِدَةٌ أمَامَ المَزَايَا وَالعيُوبْ/ طَالَتْ صَلاتُها حَتَّى انْصَرَفَتِ الأَشْيَاءُ/ غَيْرَ مُطمَئِنَّةٍ للإله ذِي الأجْنِحَةِ والمَخَالِبِ/المُنْتَظِرِ/ للانقِضَاضِ عَلى الصَّلاةِ الفَرِيسَة".

ويبدو سؤال الإيمان، كذلك، على إطلاقه، ذا مكانة في نصوص الكتاب. فإلى جانب التشكيك في المسلَّمات، بل واتخاذ نقيضها في أكثر الأحيان؛ يمضي هاشم نحو تسييل الاحتمالات خلف صلابة المواقف الظاهرة:

"سأعبدُ الله حتَّى تموت الحقيقةُ/ حتَّى تنام القناديلُ/ حتى تجفَّ عيون الزيوت من النَّوْحِ/ ستتسلَّقُني مهرجانات الشكِّ المقيَّدَة/ وتنهمر من كاهلي الشلالات والبراكين".

بينما يتسرّب يقين قاتم عبر مقاطع أخرى مثل: "لنا مِن كُلِّ معركةٍ جَسدٌ لا يموت/ وفي كُلِّ طيرٍ لنا رِيشةٌ مِنْ ضحايا الحروب/ والنصرُ يتثاءبُ في صَمْتِهِ/ يتباعدُ فينا اليقين كثيراً فلا يكتفي/ وعند عودتنا إلى الدار/ كل معركةٍ فينا تحارب أخوَاتَها كي تغنمهنَّ جميعاً/ فلا يغنمنَ سوى أنهنَّ المعارك/ خضنَ المعارك معركةً معركةْ".

لكنه يقين يحمل رائحة الفناء وحتمية النهاية، ومن جديد يأساً روحياً ساطعاً، فالروح عند هاشم: "عادَتْ إلى القاعِ... نَامَتْ ولم يوقظها أحد"، "كأنَّها وهي تعبث بالطَّلقَةِ التي حَشَتْهُم يَدٌ بَاروداً لها/ قبلَ أن تُطْلِقَهُم نَحو صَدرٍ بعيد/ لَم تكُن تُدرِكُ أينَ يمكن أن يَصِلُوا".

يعطي صدور مجموعة "جدول الوصايا" صورةً عن جيل نجا مَن نجا منه، بالكتابة، من حريق للعقل كان، ولوقت طويل، بمباركة العامة، إلا أن ثمة أثراً طبع الناجين منه بأثر لا يزول، أرانا هاشم يوسف لمحة منه غير خشونة اللغة.. وأرانا الغضب.

المساهمون