من الثياب، إلى جلد الإنسان، فجدران المدينة، تتغيّر قماشة الفنان اللبناني هادي بيضون، لتتخّذ أشكالاً مختلفة يجمعها عاملٌ واحدٌ: الرسم كطريقة للتعبير والثورة. بيضون، الذي خاض غمار الفن التشكيلي والنحت والوشم، وصولاً إلى رسم الغرافيتي على الجدران، لم يوفّر منذ عقدين من الزمن وسيلة تعبيرٍ إلا واستخدمها ليجسّد في رسوماته ظلالاً من أفكاره بالريشة والألوان.
وفي مقابلة مع "العربي الجديد"، يعترف هادي بيضون بأنه لم يشعر يوماً برغبة بالتشبّه بأحد، فمنذ أن كان على مقاعد الدراسة، كانت خياراته، الصغير والكبير منها، تبعده بشكل تام عن أي تشبيه بأقرانه. في سنّ الرابعة عشرة، بدأ مشواره مع الريشة، فكانت البداية من رسم نجومه المفضّلين في موسيقى الروك على القمصان التي كان يرتديها.
يستعيد تلك الحقبة بنوع من الاعتزاز الممزوج بالحنين. يقول: "كنّا في أواخر الثمانينيات، وكانت الحروب ما زالت مفتوحةً في البلد على جبهات مختلفة. كنت في الرابعة عشرة من عمري، وفي ذلك الزمن كنت أخوض حرباً من نوعٍ آخر، هي حرب معنوية في داخلي على كل ما هو متوارث ومعروف ومقبول من المجتمع. لم أكن أستمتع بموسيقى الراديو الشائعة التي كان يسمعها رفاقي. فقد كنت على المقلب الآخر، أنغمس باعجابي بموسيقى الروك وبنجومها، لدرجة أنني أردت أن أرسم وجوههم على معظم الملابس التي كنت أرتديها. وبما أن الأمر بدأ كهواية ووسيلة فطرية للتعبير، كانت المواد التي أستخدمها للرسم على القمصان غير احترافية، فكانت تُمحى من الغسلة الأولى للثياب على يد الوالدة، إلى أن قامت أمي بالمبادرة واصطحبتني لشراء ألوان وأدوات تثبّت الرسم على القماش من باب تشجيعي على الاستمرار في التعبير من خلال الرسم. وهكذا كان لها الفضل في وضعي على أوّل السكة التي قادتني إلى شغفي الحقيقي في الحياة".
بهذه الكلمات، التي تحمل رائحة الأم وحنيناً مخبّأ تحت وسادة الطفولة، يستعيد هادي بيضون الشرارة الأولى لاكتشافه موهبة الرسم. في سنّ العشرين، انتقل إلى الرسم التشكيلي قبل أن ينطلق في مشوار اكتشاف واستلهام الجسد من خلال فنّ الوشم، فجعل الجسد خارطةً لمغامرة فنية من نوع مختلف ستقوده إلى التعرّف إلى أحلام الآخرين ومخاوفهم، إلى هواجسهم ومصادر إلهامهم؛ فحوّل التاتو إلى وسيلة يعبّرون بها عن أنفسهم، أو الذوات التي يطمحون إلى تحقيقها؛ فيخلّدون على جلدهم ما يشاؤونه أن يبقى عصيّاً على النسيان.
في هذا السياق، يقول بيضون إن انخراطه في مجال الوشم، جاء هو الآخر في حقبةٍ لم يكن فيها المجتمع يتقبّل كثيراً فكرة التاتو، لا بل كان ينظر إليها كفعل تمرّد يضع فيه الفرد نفسه بمواجهة النظم الاجتماعية السائدة.
هكذا، سافر الفنان المشغول بتطوير نفسه في أواسط التسعينيات الى مدينة نيويورك، سعياً منه إلى تطوير مهاراته في الوشم، وفي الاستحواذ على الأدوات الضرورية للقيام به بطريقة احترافية.
اقــرأ أيضاً
الوشم الأوّل الذي نفّذه كان على نفسه، بعدها توالت الرسومات وهويّات أصحابها حتى تخطّت الآلاف وصنعت لهادي بيضون اسماً لامعاً في هذا المجال.
ولكن كل تلك الثورات الصغيرة، لم تكن تكفيه، كان بحاجةٍ إلى لوحةٍ أكبر تخرج من المعارض التقليدية إلى الشوارع؛ فلا تراها النخبة المهتمّة بالفن والثقافة فحسب، وإنما تكون متاحةً للناس، لا بل تكون لسان حال كل الناس.
هكذا، بدأ الرسم على جدران المباني. فاتخذ من الأماكن العامّة مساحةً لتحويل فنّه إلى لغة جماعية تخاطب المدينة وأهلها، فرسم الجداريات وتمرّس في فنّ الغرافيتي، حتى بات من وسائل التعبير الفنية المفضّلة لديه، ففنّ الشارع بالنسبة له "هو فنّ الناس وتجسيد لهواجسهم وطموحاتهم بحريّة مطلقة، حيث ينقشون على الجدران ما يحرَّم عليهم قوله أحياناً بكلمات واضحة، فتكون الرسومات هي لسانهم وصوت ثورتهم. ولعلّ هذا ما اختبرته مختلف الدول الثائرة من نهوض لفنّ الشارع وفورة كبيرة في الغرافيتي تزامناً مع الاحتجاجات الشعبية التي كانت تشهدها".
أحدث مشروع نفّذه هادي بيضون في هذا الإطار هو عبارة عن جدارية ضخمة بعنوان "وجه الثورة" رسمها على أحد جدران مبنى "البيضة" في بيروت.
الفكرة بدأت من صورة فوتوغرافية التقطها المصوّر المحترف روجيه مكرزل، تظهر شابّاً يضع قناعاً ذهبياً ومن خلفه النار مشتعلة في أحد الشوارع اللبنانية. في هذا السياق، يقول بيضون: "اللقطة استوقفتني؛ فقد كانت معبّرةً بشكل مذهل عن تلك اللحظة الزمنية في إطارها الوطني والاجتماعي الأوسع".
سريعاً، تحوّلت الفكرة إلى مشروع جدارية بعنوان "وجه الثورة"، لتحمل كل المعاني التي أراد هادي بيضون تضمينها لرسمته من رؤيته الخاصة للثورة اللبنانية وأوجهها المتعدّدة.
بالنسبة إليه، فإن "المكان له رمزيته الكبيرة؛ فالبيضة هي صالة سينما، والقناع ممكن أن يمثّل أي شيء وكل شيء يرتبط بهذا الزمان والمكان. القناع لا يخبر أي شيء، ولكن في صمته دلالة على عدم الرضا. أما العيون التي تظهر من خلف القناع في اللوحة فهناك تسكن النيران الحقيقية، نيران التغيير والثورة".
اليوم يواصل هادي بيضون ثورته بالريشة والألوان، يجسّد أفكاره، ويعبّر عن فلسفته الخاصّة في مختلف الموضوعات التي تستفزّه. وسواء أكانت الرسمة على لوحة أو قماشة أو جسد أو جدار، يبقى العنوان واحدا: الرسم سبيلٌ إلى الحريّة.
يستعيد تلك الحقبة بنوع من الاعتزاز الممزوج بالحنين. يقول: "كنّا في أواخر الثمانينيات، وكانت الحروب ما زالت مفتوحةً في البلد على جبهات مختلفة. كنت في الرابعة عشرة من عمري، وفي ذلك الزمن كنت أخوض حرباً من نوعٍ آخر، هي حرب معنوية في داخلي على كل ما هو متوارث ومعروف ومقبول من المجتمع. لم أكن أستمتع بموسيقى الراديو الشائعة التي كان يسمعها رفاقي. فقد كنت على المقلب الآخر، أنغمس باعجابي بموسيقى الروك وبنجومها، لدرجة أنني أردت أن أرسم وجوههم على معظم الملابس التي كنت أرتديها. وبما أن الأمر بدأ كهواية ووسيلة فطرية للتعبير، كانت المواد التي أستخدمها للرسم على القمصان غير احترافية، فكانت تُمحى من الغسلة الأولى للثياب على يد الوالدة، إلى أن قامت أمي بالمبادرة واصطحبتني لشراء ألوان وأدوات تثبّت الرسم على القماش من باب تشجيعي على الاستمرار في التعبير من خلال الرسم. وهكذا كان لها الفضل في وضعي على أوّل السكة التي قادتني إلى شغفي الحقيقي في الحياة".
بهذه الكلمات، التي تحمل رائحة الأم وحنيناً مخبّأ تحت وسادة الطفولة، يستعيد هادي بيضون الشرارة الأولى لاكتشافه موهبة الرسم. في سنّ العشرين، انتقل إلى الرسم التشكيلي قبل أن ينطلق في مشوار اكتشاف واستلهام الجسد من خلال فنّ الوشم، فجعل الجسد خارطةً لمغامرة فنية من نوع مختلف ستقوده إلى التعرّف إلى أحلام الآخرين ومخاوفهم، إلى هواجسهم ومصادر إلهامهم؛ فحوّل التاتو إلى وسيلة يعبّرون بها عن أنفسهم، أو الذوات التي يطمحون إلى تحقيقها؛ فيخلّدون على جلدهم ما يشاؤونه أن يبقى عصيّاً على النسيان.
في هذا السياق، يقول بيضون إن انخراطه في مجال الوشم، جاء هو الآخر في حقبةٍ لم يكن فيها المجتمع يتقبّل كثيراً فكرة التاتو، لا بل كان ينظر إليها كفعل تمرّد يضع فيه الفرد نفسه بمواجهة النظم الاجتماعية السائدة.
هكذا، سافر الفنان المشغول بتطوير نفسه في أواسط التسعينيات الى مدينة نيويورك، سعياً منه إلى تطوير مهاراته في الوشم، وفي الاستحواذ على الأدوات الضرورية للقيام به بطريقة احترافية.
الوشم الأوّل الذي نفّذه كان على نفسه، بعدها توالت الرسومات وهويّات أصحابها حتى تخطّت الآلاف وصنعت لهادي بيضون اسماً لامعاً في هذا المجال.
ولكن كل تلك الثورات الصغيرة، لم تكن تكفيه، كان بحاجةٍ إلى لوحةٍ أكبر تخرج من المعارض التقليدية إلى الشوارع؛ فلا تراها النخبة المهتمّة بالفن والثقافة فحسب، وإنما تكون متاحةً للناس، لا بل تكون لسان حال كل الناس.
هكذا، بدأ الرسم على جدران المباني. فاتخذ من الأماكن العامّة مساحةً لتحويل فنّه إلى لغة جماعية تخاطب المدينة وأهلها، فرسم الجداريات وتمرّس في فنّ الغرافيتي، حتى بات من وسائل التعبير الفنية المفضّلة لديه، ففنّ الشارع بالنسبة له "هو فنّ الناس وتجسيد لهواجسهم وطموحاتهم بحريّة مطلقة، حيث ينقشون على الجدران ما يحرَّم عليهم قوله أحياناً بكلمات واضحة، فتكون الرسومات هي لسانهم وصوت ثورتهم. ولعلّ هذا ما اختبرته مختلف الدول الثائرة من نهوض لفنّ الشارع وفورة كبيرة في الغرافيتي تزامناً مع الاحتجاجات الشعبية التي كانت تشهدها".
أحدث مشروع نفّذه هادي بيضون في هذا الإطار هو عبارة عن جدارية ضخمة بعنوان "وجه الثورة" رسمها على أحد جدران مبنى "البيضة" في بيروت.
الفكرة بدأت من صورة فوتوغرافية التقطها المصوّر المحترف روجيه مكرزل، تظهر شابّاً يضع قناعاً ذهبياً ومن خلفه النار مشتعلة في أحد الشوارع اللبنانية. في هذا السياق، يقول بيضون: "اللقطة استوقفتني؛ فقد كانت معبّرةً بشكل مذهل عن تلك اللحظة الزمنية في إطارها الوطني والاجتماعي الأوسع".
سريعاً، تحوّلت الفكرة إلى مشروع جدارية بعنوان "وجه الثورة"، لتحمل كل المعاني التي أراد هادي بيضون تضمينها لرسمته من رؤيته الخاصة للثورة اللبنانية وأوجهها المتعدّدة.
بالنسبة إليه، فإن "المكان له رمزيته الكبيرة؛ فالبيضة هي صالة سينما، والقناع ممكن أن يمثّل أي شيء وكل شيء يرتبط بهذا الزمان والمكان. القناع لا يخبر أي شيء، ولكن في صمته دلالة على عدم الرضا. أما العيون التي تظهر من خلف القناع في اللوحة فهناك تسكن النيران الحقيقية، نيران التغيير والثورة".
اليوم يواصل هادي بيضون ثورته بالريشة والألوان، يجسّد أفكاره، ويعبّر عن فلسفته الخاصّة في مختلف الموضوعات التي تستفزّه. وسواء أكانت الرسمة على لوحة أو قماشة أو جسد أو جدار، يبقى العنوان واحدا: الرسم سبيلٌ إلى الحريّة.