"الثقافة العراقية تعيش منذ أكثر من نصف قرن في منفى روحي وجسدي"، يقول الشاعر والمترجم العراقي هاتف جنابي (1952) لـ"العربي الجديد" في حديث مطوّل حول تجربته الموزّعة بين الشعر والترجمة والمنفى الذي اتخذه داراً منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
في ثقافة عربية مغرمة بـ"الروّاد"، يمكن لنا أن نمازحك بالقول إنك من "رواد المنفى" عراقياً، كيف كان شعورك وأنت ترى الثقافة العراقية كلها تخرج إلى المنفى منذ التسعينيات إلى اليوم؟
- أجل، عراقياً، بعدَ منفى الرواد، أنا أحدُ رواد المنفى المزدوج: كنتُ بنفس القدر، مضطراً لمغادرة العراق، والبقاء خارجه. وشرُّ البلية ما يُضحك، لأنني أنتمي إلى منفيين عراقيين كانوا يحلمون بالعودة والمساهمة ببناء الذات والوطن، مقابل كمٍّ هائل في الداخل، كان يحلم بالهرب لأسباب كثيرة. كنتُ أشعر بالحيرة وحتى الضحك، بعد احتلال الكويت وازدياد أعداد الهاربين من العراق، ومن ثم شروع بعض الشعراء والكتاب العراقيين بالحديث عن المنفى، وذكره بمناسبة ودونها، وكأنّ المنفى صفة إيجابية يمكنها أن تمايز أو ترفع من مكانة هذا وذاك. ولأنني أعرف مبكراً محنة ومأساة المنفى كنتُ أتمنى أن تكون بلادي متسامحة وحرة لكي لا أضطر لمغادرتها والعيش في وضع بائس وذليل تحت رحمة الأقدار. ما أعطاني القوة داخليا هو توظيفي المتواصل للمنفى في تطوير نفسي والتعريف بها وبتراثي من جهة، إضافة إلى بصيصِ الأمل في داخلي، والإيمان بقدرة الإنسان على النهوض والتجاوز من جهة أخرى. المنفى- كما قال الشاعر البولندي تشيسواف ميووش- يُحَطمُ ولكنه إذا لم يُحطّمكَ فستكون بفضله أقوى. اليوم وبعد دمار بعض الدول العربية، ونزوح الملايين لم يعد للمنفى والمهجر بريقهما السابق، بحيث اختلط حابلُ المهاجرين والمنفيين بنابلهم، أشرارهم بأخيارهم.
هل يمكن القول إن ترجماتك الشعرية عن البولندية سبقت قصائدك إلى القارئ العربي، كيف تنظر وتتعامل مع هذه المفارقة؟
- سؤال مهم. حياتي كلها مفارقات وتشظٍّ وأحلام. بدأت شاعراً وقاصاً ثم ناقداً ومترجماً. تعود ترجماتي الأولى إلى أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، في حين أن ممارستي الشعر والكتابة تعود إلى أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات. نشرت أول نصوصي في 1973 واضطررت للهجرة في آب 1976. كنتُ ضمن قائمة شعراء وكتاب خضعوا للتعتيم والإقصاء الأمر الذي كاد يُهدّدُ مصيري إنساناً وشاعراً وكاتباً. نُشِرَ قسط من ترجماتي الكثيرة من الأدب البولندي في بعض المجلات والصحف العربية. الترجمة جهد رائعٌ ونافع، وهي محايدة أكثر من الشعر والمقالة ومن السهل نشرها، خاصة من لغة وأدب غير معروفين كالأدب البولندي. القارئ العربي، والناشر كذلك، يشعران بالإحباط والهزيمة لذا تراهما يفضلان نشر وقراءة ما يصدر من المواد المنقولة من لغات أخرى على نشر ما يؤلف في لغتهما الأصلية. عقدة الخواجة تلاحقنا لأننا أمّة في حالة دفاع عن النفس، منذ سقوط بغداد الأول في عام 1258 م وحتى بعد سقوطها الثاني في 2003. باعتقادي، تبقى حالة بغداد هي المجس الرئيس لوضع المنطقة.
- إلى أي درجة تشعر أن المقروئية فعل حظ، بمعنى أن هناك شعراء حظوا بمقروئية، أي قُرئ إنتاجهم بينما كانوا ينتجون، وشعراء آخرون قرئوا متأخراً مما أثر على "مكانتهم" وربما على تجاربهم نفسها؟ هل تشعر أنك من القسم الثاني؟
نعم، المقروئية "قدْحَةُ حظ" إلى حد ما، وليست دائما ذات علاقة بنوعية ومستوى ما يكتب، لكنها أيضا فعل "ترويجي" تُساهم فيه وسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية من ناحية، والشاعر- الكاتب وشطارته وموقعه وأدواته، وأهميةُ الفضاء الذي يتحرك فيه من ناحية ثانية. لم أكنْ في يوم من الأيام مرتزقاً أو مهادناً أو محايداً إزاء ما تتعرض له المنطقة العربية والعراق من قمع وتفتيت وخراب ثقافي وفكري، وموقف كهذا فرض عليّ حتى اللحظة أن أدفع جزية وثمناً باهظين. أنا من حصة الشعراء الذين قُرئ إنتاجهم الأدبي متأخراً، لكنني لستُ حزيناً على هذا المآل، بالعكس أنا سعيد نوعاً ما، لأنني أحسُّ بأنني متناغم مع ذاتي مقارنة بالكثيرين، في هذا الزمن القرديّ، أراني لا أقلّدُ أحدا، أنا نسيجُ وحدي.
هناك مقروئية أخرى في حالتك في بولندا، التي صدرت لك بلغتها سبع مجموعات شعرية، هل تعتبر نفسك شاعراً بولندياً كما أنت شاعر عراقي؟
- أنا شاعر عربي أكثر منه عراقياً، ولا أطمح أن أكون أكثر من ذلك، البولنديون يُذكرونني بذلك منذ أربعين عاماً! لغتي ومرجعيتي عربيّتان في المقام الأول، وبعده يمكن إضافة العنصر البولندي والأوروبي والشرق - آسيوي. رغم اهتمام البولنديين والأوربيين الواضح بنتاجي، وترجمة أشعاري إلى أكثر من عشر لغات، إلا أن ذلك لا يعادلُ احتفاءً عربياً بي. لا أخفي غبطتي من جراء إشادتهم وتوقفهم عند نتاجي الشعري وكتاباتهم عنه وحواراتهم معي على مدى أربعين سنة. نعم، حيثما حللتُ بين البولنديين والأوروبيين وحتى حينما كنتُ في أميركا، وجدتُ احتفاء خاصاً، لكنه لم يصل إلى حدّ الجموح بسبب أصولي العربية. أتذكر قولا للمتصوف النفّري: "إذا لم يعمل الخاصُّ على أنه خاص هلك". هذه المقولة تنطبق اليوم على العرب جماعاتٍ وأفراداً. أنا أعيها وأطبقها منذ مطلع شبابي.
دخلت عالم الأكاديميا في بولندا، وهو أمر حدث لمجموعة ليست كبيرة من الشعراء العراقيين في مغترباتهم، لا بد أن هذا منحك استقراراً ورسوخاً في الثقافة الجديدة، إلى أي درجة هي منفتحة الأوساط الأكاديمية البولندية؟ وهل كان للأكاديميا في حالتك جوانبها المظلمة، على تجربتك الشعرية مثلاً؟
- قادتني مسيرتي التعليمية إلى العمل الجامعي. بعد تخرجي من قسم الآداب في جامعة بغداد (1972)، ثم حصولي على الماجستير(1979) والدكتوراه (1983) في المسرح من جامعة وارسو، وجدتُ عملا كمحاضر في الجامعة نفسها. لم أترك عملي الجامعي نظراً لأنه ساعدني في تمديد إقامتي، وأبعدني عن فكرة اللجوء إلى دول الغرب الذي كنتُ أرفضه أساساً هذا أولا، ولأنني خشيتُ أن أفقد عملي الجامعي فـ"أتبهدل" رغم محدودية الأجور التي عوّضتها بنسبة ما بالعمل محاضراً في الجزائر (1985-1988). شعرتُ آنذاك أن لعلاقتي بالجامعة إمكانية تقوية موقعي معنوياً وتعويضي عن فقدانات هائلة، إضافة إلى ضبط إيقاعي في العمل، والسماح لي بممارسة البحث الأكاديمي في المجالات التي أحبها والمشاركة في الملتقيات والمؤتمرات داخلا وخارجاً. وجامعة وارسو هي التي أرسلتني إلى أميركا باحثاً زائراً (1993/1994). لم أكتب بحثاً أو مقالة خارج نطاق مشروعي الكتابي والبحثي، لا بد من وجود مشروع ما. خلقتُ توازناً بين ممارستي الإبداعية والترجمة والبحث الأكاديمي، فأحسستُ بترسّخِ مكانتي شعرياً، أكاديمياً، وحياتياً. الأوساط الأكاديمية البولندية منفتحة بحدود، لكنْ لديها شعور بالتعالي على مَنْ هو غير بولندي وأوروبي أو أميركي. بيد أنها تحاول أن تتفهم ذوي الكفاءة والمعرفة والموهبة. نعم، للعمل الأكاديمي مهما كنتَ متوازناً، جوانبه الكالحة، في كونه يَحِتّ من وقت المبدع وقد يؤجل بعض مشاريعه الإبداعية، وإن لم يكن المبدع حذراً فسيستنزف طاقاته، وقد يقوده إلى الصمت أو الجمود. رغم نزاهتي ونشاطاتي المتنوعة المكثفة، وكتابتي باللغة البولندية، وحصولي على أربعة دبلومات، ومروري بكورسات خبرة كثيرة، إلا أنني عانيتُ طويلا من شظف العيش في بولندا، الأمر الذي اضطرني إلى العمل في أكثر من موقع كي أعيل نفسي وعائلتي في ما بعد، ولكي لا أخضع للإذلال أو الابتزاز. كان الشعرُ حاضراً في حياتي دائما، كان مقيلي من الزلل والهزيمة، كان طبيبي النفسي، وحاملَ مشعل حريتي.
من خلال الترجمة ومن خلال تجربتك الشخصية، كنت من المساهمين في بناء علاقة بين الثقافتين العربية والبولندية، كيف تنظر إلى هذه العلاقة، كيف كان المشهد في السبعينيات وكيف أصبح اليوم؟
- لكي ترى نفسك أفضل عليك أن تقارنها بالآخرين وتعمل على تعزيز مكانتك لديهم. كل علاقة تحتاج إلى طرفين أساسيين. بعد ذلك لا بد من توفر شروط لإقامتها، نضع الرغبة والمهارة والمصالح المشتركة في مقدمتها. لم يعد للعلاقات على أساس رومانسي أو بريء مجال في حوار الشعوب. أعمل في الساحة البولندية والأوروبية منذ أربعين سنة على كافة الأصعدة: الأدبية، الأكاديمية، الإعلامية والشخصية، حققت الكثير لي ولثقافتي، قدمتُ كعنصر فاعل يمثل المنطقة إيجابياً، ولم تبق منطقة بولندية أمامي بدون أن أزورها وأترك أثرا فيها، لكنني شعرتُ بالحيف، لافتقادي إلى الغطاء العربي على المستويين: المعنوي والواقعي. علاقة الآخر بنا في السبعينيات تختلف عمّا هي عليه الآن. كنا في تلك الفترة في مفترق الطرق: طريق الأمل بالخلاص (كان الآخر يظن بنا بعض الخير والنفع وإعمال العقل)، وطريق الخسران والهزيمة. خسرنا كثيراً بسبب هيمنة القطب الواحد على الساحة الدولية. المنطقة العربية راهناً، فضاء حافل بالمشاكل والصراعات والتناحرات والتخلف والسكونية المعرفية، وتصدير العنف وآيديولوجيته، إنها إناء نضح فطفح بكل ما هو سلبي، لذا لا يمكن لها أن تكون أنموذجاً يُحتذى ولا مقصداً للمستثمرين أو السائحين أو الراغبين بتبادل الخبرة والمعرفة والثقافة. كل ما نبنيه في الخارج تأتي حادثة مصدرها عربي أو إسلامي ذو خلفية ماضوية لتهدم ما بنيناه بعرق جباهنا عبر سنوات، حتى صرنا نخشى من ظلالنا ونشك في أنفسنا. دائما نصطدم بنظرة ماضوية إلينا. رغم هذه الظِلال علينا أن نثق بوجود أناس يتعاطفون معنا ويتفهمون حضورنا ومعاناتنا في الجانب الآخر. ولو كنّا نحترم بعضنا البعض مثلما يعاملنا الآخر الغريب لكان شأننا مختلفا تماما عما نحن عليه اليوم.
عشتَ تجربة الانقطاع عن الوطن أو مجتمع الثقافة الأم -حين نتخيل السبعينيات والثمانينيات- ثم عشت التجربة بعد ثورة الاتصالات في آخر التسعينيات، كيف ترى العلاقة مع الثقافة الأم ومجتمعها قبل وبعد الإنترنت؟
- الثقافة انعكاس لحساسية ومخيلة شعب ولمستوى وعيه ومعرفته. كان العراق والعالم العربي مختلفين في السبعينيات عما تلاها. ازدهرت الثقافة العراقية في تلك الفترة فتفاءَلنا، لكنها بدأت تنتكس منذ أواخر السبعينيات وما إن حلّت الثمانينيات حتى أخذت تتجه نحو التسييس أكثر من ذي قبل وصارت بوقاً لمغامرات حربية طائشة نعيش اليوم عواقبها الوخيمة، فحزنّا لذلك. ثورة الاتصالات لم تشمل العراق أثناء غيبتي عنه بسبب الرقابة الصارمة. لم نتمكن من التواصل مع عوائلنا وأصدقائنا بسهولة. بسبب الكتابة على الآلة الطابعة وباليد آنذاك، كانت بعض كتبنا وأشعارنا ونصوصنا تصدر بأخطاء مطبعية. قامت الإنترنت بقفزة هائلة أدت إلى تسهيل كتاباتنا ومراجعتها وتنقيحها، والاطلاع على تجارب الآخرين المتوفرة عبر الشبكة العنكبوتية، كما سهّل علينا التواصل مع المنطقة ومثقفيها، بحيث صرنا نراها على راحة اليد. فوائد الإنترنت لا تحصى، رغم بعض سيئاته. بعد 2003 انقض العراقيون على تأسيس الصحف والمجلات وقنوات التلفزة ومواقع الإنترنت، فنشأت حركة إنترنتية رهيبة نلمس تأثير ذلك على التواصل في ما بين الناس والمثقفين خصوصاً، وفي تحريك البحث والجو الثقافي، ونقد ما يجري وتسفيه ما ينبغي تسفيهه وتحريك الشارع بهدف الإصلاح. لكن سرعان ما أصابها اليأس والاجترار بسبب استشراء الفساد وسوء الحكم. أعتقد أن توفر الإنترنت في العراق، ما زال يفتقد إلى الحرفية والانسيابية والسرعة، والأحداث المتسارعة تقوم بغربلة ولو كانت بطيئة في المجالات كافة.
لا يمكن وصف الخراب الذي لحق بالعراق في العقدين الماضيين، كأنه دخل نفقاً لا نستطيع رؤية نهايته، ما الذي يستطيع المثقف العراقي والعربي فعله الآن، وأيّ دور تستطيع الثقافة أن تقوم به؟
- عديدٌ من دول المنطقة العربية، بعدوى من السيناريو العراقي، جُرّتْ إلى هذه المتاهة المرسومة بعناية، وكأنّ ثمن الصراع من أجل التحرر والانعتاق من الظلم والطغيان والتخلف هو دفع فواتير شنيعة كهذه. على أن دمار العراق والعقلية العراقية يتواصل منذ عشرات السنين، وقد جرى تتويجه باحتلال ثأريّ بشع، كان يُمكنُ أن يكونَ أكثرَ رحمة من الواقع المرير لو كانت نواياه إنسانية ومتحضرة. المثقف العراقي والعربي في المجمل، طبلٌ مثقوبٌ في حرب خاسرة، كائن مهزوم، تابع وخانعٌ، مكبلٌ، ومسلوب الإرادة، مزدوج الشخصية ومنافق. تعرّض لعملية كبتٍ وحصارٍ وغسل دماغ عبر عشرات السنين، على أيدي الأحزاب القومية، والطغاة، فالأحزاب الإسلاموية، لذا فلا دور عضوياً له. الحديث عن الجمع وليس المفرد. ثمة حفنة من المثقفين العراقيين والعرب الأكفاء لكنهم مشتتون وتأثيرهم بات معدوماً في أمة منهزمة لا تقرأ، تسود مثقفيها الأميةُ الثقافية.
تبدو الثقافة العراقية الآن وقد تكرّست ثقافة شتات ومنفى، كيف ترى مستقبلها؟
- الثقافة العراقية تعيش منذ أكثر من نصف قرن في حالة منفى روحي وجسدي، وكل من يقول لك عكس ذلك يكابر أو يكذب. عموماً، الثقافة العربية في جوهرها نتاج هجرة ومنفى منذ بداياتها الأولى وحتى اليوم. ألم يتأسس الإسلام بفعل الهجرة؟ وحديثاً، ألم يَعشْ مبكراً كلٌّ من جبران خليل جبران وزملائه، وقبلهم دعاة الإصلاح من الرواد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي ما بعد السياب والبياتي وبلند الحيدري والجواهري والنواب وسواهم قسطاً من حياتهم في المهجر أو المنفى؟ لاحظْ أن نتاج غالبية الشعراء والكتاب ممن لم يذوقوا المنفى والتشرد بقي منغلقاً وتقليدياً إلى حد بعيد. منفى العراقيين على الأغلب بسبب هيمنة وفشل الأدلجة في وجهيها القومي والإسلاموي. شخصياً أنا "متشائل" وفقاً لتوصيف المرحوم إميل حبيبي، وبهذا القدر أنظرُ إلى الكون والمخلوقات وإلى نفسي، وأظن، أن الثقافة العراقية (والعربية تعميماً) إذا لم تندثر أو تتحول إلى فولكلور وحسب، فربما ستنهض من رمادها لكن بعد نصف قرن على أقل تقدير.