هؤلاء المنتحرون

18 سبتمبر 2015

هل يفسر غزو لبنان في 1982 انتحار خليل حاوي؟

+ الخط -
منذ انتحار الشاعرين، طرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم، في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، على ما ذكر باحثون في شؤون الموت، وما قيل عن انتحار أبي حيّان التوحيدي في القرن العاشر، لم ينتحر، من المثقفين العرب شعراء وفنانون وكتاب وغيرهم، سوى عدد قليل ناهز العشرين قليلاً، ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. من مصر، مثلاً، انتحر منير رمزي وأحمد العاصي وفخري أبو السعود وصلاح جاهين وأروى صالح. ومن سورية، انتحر عبد الباسط الصوفي. ومن لبنان، أنطوان مشحور وخليل حاوي ورالف رزق الله. ومن العراق إبراهيم زاير وقاسم جبارة ومهدي علي الراضي. ومن الأردن، تيسير سبول. ومن فلسطين، فرنسوا أبو سالم. ومن تونس، الحبيب المسروقي. ومن السودان، عبد الرحيم أبو ذكري. ومن الجزائر، عبدالله بوخالقة وصفية كتو وفاروق إسميرة. ومن المغرب، كريم حوماري. ولم تشهد اليمن والإمارات وقطر والبحرين والسعودية وعُمان حالات انتحار بين مثقفيها، ولا نعرف إذا جرت حالات انتحار في موريتانيا وليبيا.
انتحار الروائي الأكثر قراءة في هولندا، يوست زخافرمان، أخيراً، وقبله بفترة انتحار كاتب هولندي كان صديقاً مقرباً منه، وما شهده عالم السينما الأميركية من انتحار ممثلين عالميين في العام الماضي، تثير هذه الوقائع أسئلة قديمة وجديدة، في الوقت نفسه، فقد حفل الغرب بحالات انتحار مثقفين وكتاب وفلاسفة وفنانين وشعراء، منذ الفيلسوف اليوناني سقراط. وانتحر رهط كبير من هذه الشريحة في المجتمعات الغربية بأساليب مختلفة. ولو أجرينا إحصاءً لعدد هؤلاء لبلغ الألوف، ففي كل يوم يصدمنا انتحار كاتب أو فنان له حضور ساطع في مجتمعه، وله معجبوه ومريدوه في العالم كله. لن يقدم الدخول في متاهات التفسيرات الدينية أجوبة حيال الفروق بين الثقافات وأسباب انتشار حالات الانتحار بهذا العدد في المجتمعات الغربية وضآلتها في المجتمعات العربية والإسلامية، وخصوصاً إذا ما تبيّن لنا أن معظم الكتاب والمثقفين في بلادنا لا تربطهم رابطة قوية بالدين، إلى درجة تردعهم من القيام بالانتحار الذي تحرّمه الأديان، وتعتبر من ينتحر كافراً، وستكون الجحيم مصيره ونهاية رحلته في العالم الآخر.
الانتحار فعلٌ طموح في التعامل مع الحياة والموت وأسئلة الوجود، خصوصاً لدى المشتغلين في حقول الإبداع. والمشكلة معه أنه خيارٌ يطمح بعوالم وفضاءات أرحب، فيما وراء الطموح الغامض، حين لا يبقى في الحياة المعاشة ما يلبي تلك الرغبة المتأججة لدى المثقف أو المبدع، للإمساك بالحياة، وتطويعها كما يطوّع الشاعر لغته، والفنان ألوانه ومخيلته، والمفكر أفكاره ومساراتها، والروائي شخصيات روايته ومصائرهم، من غير أن تتمرد كل تلك الأدوات والوسائل عليه، وتنفلت من بين يديه، وتمّحي تلك العلاقة الحميمة معها، فتدفعه إلى أتون الضياع واللبس وانغلاق الأبواب. ومن السذاجة أن نعتقد أن الظروف السياسية والاجتماعية في البلد الذي ينتمي إليه هؤلاء تدفعهم إلى الانتحار، كما فُسّر الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 سبباً لانتحار الشاعر اللبناني، خليل حاوي، لأن الانتحار، كحالة إنسانية فردية وشخصية وذات بعد سيكولوجي، يقوم بها مثقف أبعد وأكثر تعقيداً من الأسباب التي تؤثر في الناس من العامة. وهناك من يميل من الباحثين في شؤون الموت إلى اعتبار انتحار المبدعين أسمى حالات الإبداع، والرغبة الجامحة للإمساك بكل شيء، في لحظة يتوقف فيها الزمن، ويصير رهينة بين يدي المبدع المنتحر، كما تتوقف الحياة عن كونها فعلاً قابلا للتلف والتفكك. وفي المحاولة لسبر أسباب ضآلة عدد المنتحرين بين المبدعين العرب، لا يجد المرء سبباً غير التماهي اللاواعي مع استمرارية سلطة الفرد الزعيم الخالد منذ الجاهلية، وانشغالهم بالرموز ورغبتهم بالأبد.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.