يسخر نيكانور بارا من كل ما عرفناه وألفناه عن الشعر. الشاعر التشيلي، الذي بلغ المئة هذا العام، اختار أن يسوق الشعر إلى الحياة، على عكس رفاقه الشعراء الذين ساقوا الحياة إلى الشعر.
يحاول مؤلّف "قصائد وقصائد مضادّة" أن يقدّم تفسيرات شعرية لأمور لم يسبق لها الدخول إلى قصيدةٍ قبله. مغامرته في الكتابة هي مقولته عن "الشعر المضاد" وهي كذلك مساهمته الكبرى في شعر أميركا اللاتينية. يبدو بارا في هذه النظرية وكأنه النتيجة لجمع بريشت بكافكا؛ فقد استفاد من المسرح والنقد الجمالي البريشتي، وكذلك استعان بالحمّى الكافكاوية. ولم تخلُ نظريته من التأثر أيضاً بالـ "بوب آرت" والسينما.
باتت قراءة بارا متاحة، اليوم، بالعربية بعد أن قدّم المترجم أحمد حسّان أخيراً مختارات له بعنوان "كأنما لا شيء يحدث في تشيلي" (الهيئة العامة للكتاب، مصر). اختار المترجم قصائد متفرقة من دواوين تمثّل مراحل مختلفة من تجربة الشاعر، تمتد من نهاية الخمسينيات حتى منتصف الثمانينيات.
وفقاً لحسّان، تهدف قصيدة بارا إلى "كفّ الأنا البطولية عن الاشتغال" لتحلّ محلّها ذات حديثة، متهكّمة. قصيدة تتأمّل وتستقصي وتتقلّب بين أشكال شعرية وغير شعرية، ضاربةً القيم الجمالية والانفعالية عرض الحائط. أمّا لغة الشعر المضاد، فتتوسل الاقتراب من لغة المعيش، مستخدمة مفردات من شتى الحقول العلمية والصناعية والتجارية والدينية والسياسية، تتضافر جميعها لتنتج قصيدة أشبه ما تكون بمقطع من الكوميديا السوداء.
اللغة النافرة عاطفياً مع موضوع القصيدة هي المكوّن الأساسي في بنية الشعر المضاد التي ابتكرها بارا. إنها طريقة أستاذ الرياضيات والفيزياء، آنذاك، صاحب المزاج الفيزيائي القادم من نسبية أينشتاين، لكتابة الشعر. ليس مستغرباً، إذاً، أن تكون المعايير لديه "الاقتصاد في اللغة، والتخلص من المجاز".
يريد بارا الإبقاء على القلق الوجودي، في وقتٍ يتوق فيه إلى التحرر من العاطفة والميلودراما. وبحسب المترجم، أصبحت "قصائده بمثابة المرآة المقعرة التي تجبر الإنسان على أن يرى نفسه فيها بكل حماقاته". هو شعر تمرد على الأكاذيب الموقّرة والمقبولة اجتماعياً، يهدم الأشكال، ويمحو الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية.
هكذا، تصبح أمور الهرطقة الفاحشة والوقحة، وسائلَ تقول إن الحل لعبثية الوضع الإنساني، بقبوله حتى الثمالة، على حد تعبير حسان، حتى "يحس القارىء المعاصر أنها تحرره من شياطينه وتكشف له عن أشد وجوهه خفاءً".
أول ظهورها، وُوجهت مقولة "الشعر المضّاد" بكثير من التشكيك في نجاحها. الموقف متوقّع من قرّاء الشعر، فالفكرة بذاتها مخيفة وأشبه بالعصيان الشعري. وهكذا يكون نيكانور في الشعر صنواً لمارسيل دوشان في الفن؛ فكتابته كانت أقرب إلى ارتكاب خطيئة ضد طبيعة الشعر كما ألفناه، وهذا الارتكاب هو خبز بارا ومصدر شعريته.