في محاولة للابتعاد عن وقائع العالم العربي، قررت السفر إلى منطقة غير عربية ولا تكترثُ كثيرًا بأوضاع الشرق الأوسط، وكانت الوجهة أميركا اللاتينية لخوض تجربة جديدة، فوجئت بأنها تتشابه كثيراً مع منطقتنا، وبالذات مع الدول العربية، ومع التجربة ذاتها التي مررت بها كطفلة. الفارق أن الأرض، واللغة غير عربيتين.
منذ أحداث ثورات الربيع العربي، في 2011، حملنا بشائر أمل وتطلعات أجيال، إلا أن الكثير منا الآن يتوق إلى حالة من الهدوء والاستقرار والسلام. ومن المفارقة أن المحاولة ذاتها للإفلات من بلادي، اليمن، ألقت بي إلى قلب اليمن، ولكن في دولة تحمل اسماً آخر وهو نيكاراغوا، فتصبح العاصمة ماناغوا هي صنعاء، وبقايا حكم الساندينيستا تدق أجراسا للتذكير بدورات العنف الداخلية في اليمن. كبلادي لم تسلم نيكاراغوا من التدخلات الإقليمية المجاورة والدولية البعيدة. وهذا ما جعلها مرآة عاكسة لليمن، على الأقل في عيوني التي ترى اليمن أينما نظرت.
بعد أسبوع، قادتني عجلات السيارة لأكثر من ست ساعات إلى قرية الرانشو غراندي (حرفيا المزرعة الكبرى)، بحثاً في خيالي عن صورة لليمن كمصدر قهوةٍ بلا قات. استضافني المزارع إرنيستو في منزله الريفي المرشوش على ترابه الماء بسقفه المغطى بالزنك كأنني هبطت للتو في قرية عشوائية من قرى اليمن المتناثرة. هناك، يعيش إرنيستو مع زوجته رينا (ملكة)، وابنتيه داريان وجيني وحفيده ويلبرج. في فناء منزله تعيش بعضٌ من أبقاره ودجاجاته وخنازيره، وفي الجانب الآخر من الفناء الخلفي، يتم تنظيف وتجفيف حبوب البن والكاكاو.
قبل أن يعرفني إرنيستو على مزرعته، أصرَّ بإلحاح كرم عربي على تناول الغداء في داره بعد الجولة. وعندما علم بأنّي لا أتناول إلا لحم الدجاج، قام بذبح دجاجة من عشّه كأي فلاح يمني تماماً، وخلال جولتي في المزرعة، باشرت الملكة رينا طهو وجبة الغداء على موقد حطب تكاد رائحته تصل لأنفي من بعيد، ودخانه يطير بي إلى صباحات آب، في وجبة حساء دجاج لم أذق مثلها في حياتي.
ما ظننت أنه هروب من اليمن ورطني في نسخة جوالة منها، و ما بدأ كرحلةٍ لاسترجاع المستقبل، تحول إلى درس في مفهوم القناعة والعيش بسلام واتساق.
اقــرأ أيضاً
كانت القهوة أساساً في بحثي عن شيء يشبه رائحة اليمن، وخلصتُ إلى مزيج من الكاكاو ونشوة الحامض، ممزوجاً بحلاوة سكر الليمون والبرتقال وعطر من ندى الطل يغطي مساحات الروح، وشيء من الحزن والفقد يتسلل إلى القلب بقلق مشروع عن أشجار اليمن وقبلها أهل اليمن. بقايا الوحل والأرض الرطبة وغوص القدم في مرتفعات ومنحدرات جبليَّة وتلال، كلَّها قد تجلب بعض التذمُّر، لكنَّني كنتُ أبتسم وأطرب عندما تحلق فراشة، أو أسمع نقيق ضفدع صغير، أو هديل بلبل بديع، فأنسى الطين والبلل، وتلسعني سعادة لا أكاد أتذكرها، لكنها تنبع من طفولة ما، من قرية ما، من بلد اسمه اليمن. خلال الجولة، كان إرنيستو يحمل منجلاً بيده يزيح به ما تشابك من أشجار، ويقطف ثماره بفخرٍ لأتذوَّقها، ويطلب مني أن أرمي ما تبقى منها في الأرض حتى تنمو من جديد.
قال إرنستو بفخر: "لا تلوث المبيدات أي شيء هنا. كل المحاصيل والطبيعة نقية وعضوية"، فسألت: "كيف تواجه الحشرات الضارة بالنباتات؟". فكان رده: "كل المخلوقات تجد ما يكفيها للعيش بسلام واكتفاء".
برغم بساطة وتواضع منزل إرنستو، إلا أن مزرعته شاسعة الأطراف، ويعمل لديه مزارعون كثر يقيمون مع أسرهم في أراضيه. وكما بدا في حديثي مع إرنيستو، فإن حلمه الأكبر هو أن يتمكن من نقل بيته من أسفل التلة إلى أعلاها ليطل على سفحها. ولم تكن هذه الجولة ترفيهية فحسب، بل تعليمية وتوعوية، إذ تعلَّمت كيف يزرع وينمو ويجمع وينقى ويعد البن، قبل وصوله إلى المستهلك. عند العودة، سألني إرنيستو إن كنت مُهتمَّة بمقابلة بعض أصدقائه، والتعرف على كفاحهم وشقائهم كمزارعين، فأجبتُ بالترحيب، وتم اللقاء بعد تناول الطعام.
قضيت معظم الغداء وأنا أتأمل جنة إرنيستو. الرجل السعيد الذي عرف معنى الاكتفاء والقناعة. بعدها، التقيت بالدون (السيد) كارلوس، رئيس الحركة القاعدية لحماية نهر ياوسكا المعروفة بـ"حماة ياوسكا"، والآنسة سماريا السكرتير الأول للحركة. وبدأت سماريا تروي قصة كفاح الحملة في مواجهة جشع الحكومة وشركة B2Gold الكندية لاستكشاف المعادن الثمينة في بلدية الرانشو غراندي. علماً أنّ الشركة ذاتها لها منجمان في دولة نيكاراغوا، إلليمون واليبرتاد، لاستخراج الذهب، وقد حصلت الشركة في عام 2002 على عقد للتنازل من الحكومة لمدة ربع قرن. وفي عام 2011، بدأت الشركة في استكشاف منطقة المزرعة الكبرى الرانشو غراندي.
قدرت الشركة أرباحها المتوقعة من هذا المشروع بـ22 مليار دولار كندي، الأمر الذي شجع الحكومة بالقول إن المشروع سيحقق فوائد تنموية جمة للمنطقة، وسيساعد على رفع مستوى معيشة السكان. فوفقاً لإحصاءات، 68% من سكان الرانشو غراندي يعيشون في فقر مدقع.
فأطلقت حكومة أورتيغا حملة بدأت في المدارس العامة بفوائد التعدين، وبدأ التلقين السياسي لشرح فائدة العائدات للمنطقة. وبالصدفة، كان القس الكاثوليكي للمنطقة (بابلو) واعياً للعواقب البيئية لمشروع استخراج الذهب التي من بينها تلوث مياه الشرب والري التي تنبع من نهر الياوسكا. فبدأ القس بتوعية مناصري الكنيسة بالاحتجاج السلمي، ووحد جهوده مع الكنيسة الإنجيلية الوافدة، الأمر الذي أدى إلى تلاحم واصطفاف غير مسبوق حول الموضوع.
نظم المواطنون أنفسهم، واتخذواً قراراً بعدم إرسال أطفالهم إلى المدارس العامة احتجاجاً على استمرار الحكومة والشركة ومناصريهما في نشر الدعاية لصالح المشروع. فقد قامت الحكومة ببعض الإجراءات لمنع وصول آراء المواطنين المحليين إلى الفضاء العام، والقيام بحملة دعائية مضادة حتى يمهدوا الأرضية لإفشال جهود المحتجين السلميين. ومن بين هذه الإجراءات، قامت الحكومة بمنع محطات الوقود من تزويد أي وسائل نقل تعتزم المشاركة في الاحتجاجات بالوقود، حتى تقلل من أثر نجاح هذه الحملة.
اقــرأ أيضاً
بعد أسبوع، قادتني عجلات السيارة لأكثر من ست ساعات إلى قرية الرانشو غراندي (حرفيا المزرعة الكبرى)، بحثاً في خيالي عن صورة لليمن كمصدر قهوةٍ بلا قات. استضافني المزارع إرنيستو في منزله الريفي المرشوش على ترابه الماء بسقفه المغطى بالزنك كأنني هبطت للتو في قرية عشوائية من قرى اليمن المتناثرة. هناك، يعيش إرنيستو مع زوجته رينا (ملكة)، وابنتيه داريان وجيني وحفيده ويلبرج. في فناء منزله تعيش بعضٌ من أبقاره ودجاجاته وخنازيره، وفي الجانب الآخر من الفناء الخلفي، يتم تنظيف وتجفيف حبوب البن والكاكاو.
قبل أن يعرفني إرنيستو على مزرعته، أصرَّ بإلحاح كرم عربي على تناول الغداء في داره بعد الجولة. وعندما علم بأنّي لا أتناول إلا لحم الدجاج، قام بذبح دجاجة من عشّه كأي فلاح يمني تماماً، وخلال جولتي في المزرعة، باشرت الملكة رينا طهو وجبة الغداء على موقد حطب تكاد رائحته تصل لأنفي من بعيد، ودخانه يطير بي إلى صباحات آب، في وجبة حساء دجاج لم أذق مثلها في حياتي.
ما ظننت أنه هروب من اليمن ورطني في نسخة جوالة منها، و ما بدأ كرحلةٍ لاسترجاع المستقبل، تحول إلى درس في مفهوم القناعة والعيش بسلام واتساق.
كانت القهوة أساساً في بحثي عن شيء يشبه رائحة اليمن، وخلصتُ إلى مزيج من الكاكاو ونشوة الحامض، ممزوجاً بحلاوة سكر الليمون والبرتقال وعطر من ندى الطل يغطي مساحات الروح، وشيء من الحزن والفقد يتسلل إلى القلب بقلق مشروع عن أشجار اليمن وقبلها أهل اليمن. بقايا الوحل والأرض الرطبة وغوص القدم في مرتفعات ومنحدرات جبليَّة وتلال، كلَّها قد تجلب بعض التذمُّر، لكنَّني كنتُ أبتسم وأطرب عندما تحلق فراشة، أو أسمع نقيق ضفدع صغير، أو هديل بلبل بديع، فأنسى الطين والبلل، وتلسعني سعادة لا أكاد أتذكرها، لكنها تنبع من طفولة ما، من قرية ما، من بلد اسمه اليمن. خلال الجولة، كان إرنيستو يحمل منجلاً بيده يزيح به ما تشابك من أشجار، ويقطف ثماره بفخرٍ لأتذوَّقها، ويطلب مني أن أرمي ما تبقى منها في الأرض حتى تنمو من جديد.
قال إرنستو بفخر: "لا تلوث المبيدات أي شيء هنا. كل المحاصيل والطبيعة نقية وعضوية"، فسألت: "كيف تواجه الحشرات الضارة بالنباتات؟". فكان رده: "كل المخلوقات تجد ما يكفيها للعيش بسلام واكتفاء".
برغم بساطة وتواضع منزل إرنستو، إلا أن مزرعته شاسعة الأطراف، ويعمل لديه مزارعون كثر يقيمون مع أسرهم في أراضيه. وكما بدا في حديثي مع إرنيستو، فإن حلمه الأكبر هو أن يتمكن من نقل بيته من أسفل التلة إلى أعلاها ليطل على سفحها. ولم تكن هذه الجولة ترفيهية فحسب، بل تعليمية وتوعوية، إذ تعلَّمت كيف يزرع وينمو ويجمع وينقى ويعد البن، قبل وصوله إلى المستهلك. عند العودة، سألني إرنيستو إن كنت مُهتمَّة بمقابلة بعض أصدقائه، والتعرف على كفاحهم وشقائهم كمزارعين، فأجبتُ بالترحيب، وتم اللقاء بعد تناول الطعام.
قضيت معظم الغداء وأنا أتأمل جنة إرنيستو. الرجل السعيد الذي عرف معنى الاكتفاء والقناعة. بعدها، التقيت بالدون (السيد) كارلوس، رئيس الحركة القاعدية لحماية نهر ياوسكا المعروفة بـ"حماة ياوسكا"، والآنسة سماريا السكرتير الأول للحركة. وبدأت سماريا تروي قصة كفاح الحملة في مواجهة جشع الحكومة وشركة B2Gold الكندية لاستكشاف المعادن الثمينة في بلدية الرانشو غراندي. علماً أنّ الشركة ذاتها لها منجمان في دولة نيكاراغوا، إلليمون واليبرتاد، لاستخراج الذهب، وقد حصلت الشركة في عام 2002 على عقد للتنازل من الحكومة لمدة ربع قرن. وفي عام 2011، بدأت الشركة في استكشاف منطقة المزرعة الكبرى الرانشو غراندي.
قدرت الشركة أرباحها المتوقعة من هذا المشروع بـ22 مليار دولار كندي، الأمر الذي شجع الحكومة بالقول إن المشروع سيحقق فوائد تنموية جمة للمنطقة، وسيساعد على رفع مستوى معيشة السكان. فوفقاً لإحصاءات، 68% من سكان الرانشو غراندي يعيشون في فقر مدقع.
فأطلقت حكومة أورتيغا حملة بدأت في المدارس العامة بفوائد التعدين، وبدأ التلقين السياسي لشرح فائدة العائدات للمنطقة. وبالصدفة، كان القس الكاثوليكي للمنطقة (بابلو) واعياً للعواقب البيئية لمشروع استخراج الذهب التي من بينها تلوث مياه الشرب والري التي تنبع من نهر الياوسكا. فبدأ القس بتوعية مناصري الكنيسة بالاحتجاج السلمي، ووحد جهوده مع الكنيسة الإنجيلية الوافدة، الأمر الذي أدى إلى تلاحم واصطفاف غير مسبوق حول الموضوع.
نظم المواطنون أنفسهم، واتخذواً قراراً بعدم إرسال أطفالهم إلى المدارس العامة احتجاجاً على استمرار الحكومة والشركة ومناصريهما في نشر الدعاية لصالح المشروع. فقد قامت الحكومة ببعض الإجراءات لمنع وصول آراء المواطنين المحليين إلى الفضاء العام، والقيام بحملة دعائية مضادة حتى يمهدوا الأرضية لإفشال جهود المحتجين السلميين. ومن بين هذه الإجراءات، قامت الحكومة بمنع محطات الوقود من تزويد أي وسائل نقل تعتزم المشاركة في الاحتجاجات بالوقود، حتى تقلل من أثر نجاح هذه الحملة.