في جميع الأحوال، لا يوجد حدث آني في "الصراعات المُهمَلة"، وذات الأوجه المتعددة، في بلد الـ200 مليون نسمة، الأكثر كثافةً سكانياً في أفريقيا، والسابع عالمياً. حتى إن حديث الرئيس المجددة ولايته محمدو بخاري أخيراً، عن التمكن من إلحاق الهزيمة بـ"بوكو حرام"، التي انقسمت إلى نصفين مع فورة تنظيم "داعش" عام 2015، يصبّ في خانة "سياسة إدارة الفشل" التي تنتهجها نيجيريا منذ عقود، في وجه صراعاتها المقولبة في إطارات إثنية (350 إثنية)، وإثنية - دينية، وطائفية، واقتصادية... وحتى بيئية.
وتناقض الحقائق والأوضاع على الأرض حديث الرئيس النيجيري عن عمر "بوكو حرام"، والقضاء عليها. فالجماعة المسلحة المتطرفة، التي تطلق عليها تسميات متعددة منها "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد"، و"طالبان النيجيرية" وطائفة "اليوسفية"، مضى على وجودها 12 عاماً لا 10 أعوام فقط، وهي بدأت عملياً في 14 أغسطس/ آب 2007، مع مقتل أحد الشيوخ في مسجد في ولاية كانو، شمال شرق البلاد، المنطقة المعروفة بـ"الهوساوية"، نسبة إلى إحدى كبرى المجموعات الإثنية في أفريقيا "الهوسا"، حيث معقل الجماعة، لانتقاده المتشدد السلفي "الأستاذ" محمد يوسف (أبو يوسف البرناوي) مؤسس الجماعة في مايدوغوري، عاصمة ولاية بورنو، الذي ينسب ظهور الجماعة إلى مقتله بعد عامين، إثر مواجهات دامية بين الشرطة النيجيرية وأعضاء الجماعة، الذين كانوا توسعوا في ولايتي باوتشي ونوبي.
كما أنّ حديث الرئيس النيجيري عن توسع خطر "الجهاديين الدوليين"، في إشارة إلى "داعش" في غرب أفريقيا، مقابل القضاء على "بوكو حرام"، يناقض الواقع في تلك البؤرة المتوترة. فبخاري يسعى من خلال ذلك، لإلقاء اللوم على من يصفهم بالمقاتلين الأجانب الذين تسللوا إلى البلاد، علماً أن تنظيم داعش في ولاية غرب أفريقيا، الذي تقدر منظمات دولية عدد مقاتليه في نيجيريا بما بين 3 آلاف إلى خمسة آلاف مقاتل، هم جلّهم من النيجيريين.
وفي تقرير لها رداً على بخاري، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" منذ أيام، عن مقبرة "سرية" لمئات الجنود النيجيريين، الذين قتلوا على يد الجماعة المتطرفة، في مايدوغوري، وهي ليست الوحيدة، وفقاً لمسؤولين تحدثوا للصحيفة، مشيرين إلى إهمال وإرهاق يصيب الجنود المقاتلين في مواجهة الإسلاميين، وقلة عتاد، وحيثيات خطأ، وإبقاء على الجبهات لفترات طويلة، فيما حملت ردود عبر مواقع التواصل الاجتماعي انتقادات لإرسال جنود مسيحيين لمناطق التوتر المسلمة.
وبحسب الصحيفة، فإن أكبر قوة عسكرية أفريقية، وحليفة للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، تكافح بصعوبة بالغة في وجه حركة تمرد (جماعة بوكو حرام) ظهرت منذ عقد، وأعادت اليوم إحياء نفسها بـ"داعش"، وعودة مقاتلين من سورية وليبيا والعراق، فيما تحدثت تقارير أخرى لـ"مجموعة الأزمات الدولية" عن رصد مراكز تدريب للجماعتين الإسلاميتين المتطرفتين، يديرها "عرب"، وآليات ومواكب مسلحة تخرج وتدخل من الحدود، عبر تشاد، قد يكون مصدرها ليبيا، وفي منطقة تملك فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قواعد عسكرية تؤمن تدريباً للقوات الخاصة المحلية.
ووافقت الإدارة الأميركية في بداية عهد دونالد ترامب، على صفقة تقدر بـ593 مليون دولار، لشراء 12 طائرة من طراز "سوبر توكانو آي 29" وأسلحة لنيجيريا، بإعادة إحياء صفقة كان قد جمدها سلفه باراك أوباما، لاعتبارات متعلقة بانتهاكات لحقوق الإنسان تمارس في هذا البلد.
تفوق "داعش"
وترى "مجموعة الأزمات الدولية" أن "بوكو حرام" وجدت نفسها عام 2015، تحت ضغط متزايد من قبل الحكومة النيجيرية وحلفائها في المنطقة، ما غذى الخلافات الداخلية داخلها، وأدى إلى تقلص رقعة نفوذها، لتخسر في العام نفسه عاصمتها غوزا، ومداً أخرى في ولاية بورنو، وتنحسر إلى ملاذات آمنة على حدود بحيرة تشاد، في غابات سامبيزا والجبال شرق غوزا. لكن هذا التراجع، أجّج خلافات داخلية كانت كامنة، واختلافات عقائدية، لكن الجماعة كانت لا تزال كتلة موحدة حين أعلن زعيمها أبو بكر شيكاو، في مارس/ آذار 2015، البيعة لـ"خلافة داعش"، ليعود التنظيم وينقسم بعد عام، مع قيادة مامان نور وأبو مصعب البرناوي، أحد أبناء محمد يوسف، اللذين حصلا على اعتراف "داعش".
وتعتبر المجموعة أن أبو بكر شيكاو، يسعى اليوم إلى تقليد "داعش" وتبني فكره من دون موافقة التنظيم، فيما يؤكد محللون أمنيون أنه لا يزال يحاول التواصل والتودد لقيادات "داعش"، فيما يؤكد آخرون أن الأخير أدى دوراً في التوصل إلى هدنة بين الطرفين بعد معارك طاحنة العام الماضي وبداية العام الحالي، وصلت إلى حد تنفيذهما عمليتين مشتركتين مؤكدتين في يناير وفبراير الماضيين، رغم أن "الدم المسال" بينهما يصعب إعادة التوحد.
في المقابل، تشير تقارير لمجموعات دولية، منها "تاندوفلاين" و"مجموعة الأزمات"، إلى تخلي "داعش" في ولاية غرب أفريقيا، عن تكتيكاته التي اعتمدها في مناطق "خلافته" المنهارة في الشرق الأوسط، وتقربه من السكان المحليين، وتوزيع أرباح الضرائب عليهم، وإنشائه شبكات طرقات للتهريب والتجارة، وتنصيب نفسه بديلاً عن غياب التنمية الحكومية. كما تركز هجمات "داعش" على القوات الحكومية، في مقابل مواصلة "بوكو حرام" تنفيذها أعمال العنف الوحشية التي تطاول المدنيين، وآخرها الهجوم الذي نفذته الأحد الماضي، ضد تجمع للعزاء في أحد مخيمات اللاجئين.
"حرب المزارعين والرعاة"
ولا تقتصر الصراعات في نيجيريا على عنف "بوكو حرام" و"داعش". الدم المسال بين المزارعين والرعاة في منطقة "الحزام الأوسط" بلغ أوجه العام الماضي، وتخطت نسبة القتلى تلك الناجمة عن ضحايا "بوكو حرام" في العام نفسه. وفيما تسعى السلطات إلى الإيحاء بأن الأزمة دينية، بين المسيحيين والمسلمين، إلا أن إثنيتي "فولاني" و"الهوسا" البادئتين بالأزمة، مسلمتان، فيما ازدادت الأزمة عموماً بعد تغير المناخ حيث يسعى الرعاة إلى التوجه جنوباً، حيث الكثافة المسيحية، بهدف تغذية مواشيهم في المناطق الزراعية، حيث المزارعون من إثنية "بيروم" التي تعتنق المسيحية.
ويرى متابعون للشأن النيجيري أن منطقة زامفارا، وهي معقل سياسي لبخاري (شمال غرب)، حيث تتركز المواجهات بين المزارعين "هي مختبر لحل الصراعات" في نيجيريا، على اعتبار أن قدرة الدولة على إيجاد حلول للمواجهات في هذه البقعة ستكون مؤشراً على إمكانية التأسيس لحلول أو تسويات في بؤر العنف الأخرى.
قضية زكزاكي
ولا تغيب قضية "الحركة الإسلامية في نيجيريا" عن دائرة التوتر في العاصمة أبوجا ومحيطها، مع توسع دائرة الاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن مؤسس الحركة الشيعية إبراهيم زكزاكي، وهي قضية حملت أبعاداً خارجية، ولا سيما بعدما أعلنت الحكومة أخيراً حظر الجماعة بذريعة حصولها على الدعم من إيران، واتهامها بزعزعة الاستقرار والسعي لإنشاء جمهورية تحاكي نموذج "الجمهورية الإسلامية الإيرانية".
"الفورة السكانية"
قد تكون نيجيريا، منذ الاستقلال عن المستعمر البريطاني، مشروع دولة تعيش حرباً أهلية "كامنة"، لم تغرق فيها يوماً إلى "العظم"، ولم تنعم في المقابل بالسلام والرخاء رغم الإمكانيات الهائلة. حجم الفساد، والاختلافات الإثنية، والصراع المتواصل على إدارة النفوذ، لم يحسم المعركة فيها لأي طرف، ولا حتى للعسكر، ولا للسياسيين. إدارة الحوار مع الأطراف المتصارعة، بما فيها مع الجماعات الإسلامية، تبدو مستحيلة، فيما تعوق مفردات الفساد تمكين المؤسسات من التنمية العادلة.
في المقابل، يبدو التحدي الأكبر لعملاق أفريقيا واضحاً بـ"العين المجردة". قلة الغذاء والماء، مقابل فورة سكانية مرحجة لحدود 400 مليون نسمة عام 2050.