حاز فريدريك نيتشه (1844 - 1900) سمعته بوصفه فيلسوفاً أحدث خلخلة للمبادئ الكلية التي سارت عليها الفلسفة الأوروبية، لكنه لم ينجح كموسيقي، رغم محاولاته مراراً وتكراراً. في الذكرى المئة والعشرين لرحيله، لم يتبق من نيتشه الموسيقي سوى صورة مُلحقة لسيرته الذاتية.
إنه لأمر مفاجئ بالنسبة لكثير منا، اقتحام الفيلسوف مجال الموسيقى، لكن ذلك يكشف الجانب الحالم منه، وهو على صلة وثيقة بروح فلسفته المتطلعة، ضمن تصور إرادوي للإنسان الأعلى.
ومنذ ولادة مشروعه الفلسفي مع "مولد التراجيديا"، أخذت الموسيقى اهتماماً مركزياً، وبالتحديد في إطار الثنائية الأبولونية والديونيسية. ففي صميم اعتقاد نيتشه، تساهم الموسيقى بتحسين قدراته الفلسفية. لعله حاول تبرير إصراره على التأليف الموسيقي، مع أنه كان حرياً به الإقلاع عن ذلك، أو عدم الإعلان عنه.
ففي عام 1871، أرسل نيتشه مقطوعة موسيقية من تأليفه لكوزيما، زوجة الموسيقي الشهير ريتشارد فاغنر، كهدية في عيد ميلادها. وفي وسط الحفلة، عزفت كوزيما مقطوعة نيتشه على البيانو أمام الحضور. لم يتمالك فاغنر نفسه، وانصرف في صيغة اعتراض. بعدها، رآه أحد الضيوف يدور في حديقة منزله وهو يضحك. ربما كان يتساءل: ما الذي دهاه؟ بالتأكيد راودت نيتشه آمال بأن ينال عمله استحسان الحضور. لكن الموسيقيين تناولوا أعماله بكثير من الاستهجان.
لطالما أعلن صاحب "جينالوجيا الأخلاق" عن ميوله الموسيقية، وأحاطها بجزء من أفكاره، التي لم تظل على نسق واحد. فعلاقته بفاغنر انحدرت إلى القطيعة، ولعل ذلك انعكس في إعلان تحيزه الواضح لموسيقى الجنوب الأوروبية، ليصفها بروح الخفة، مقارنة بروح الثقل في موسيقى الشمال المُظلمة التي مثلها فاغنر. مع هذا، هل كان لذلك علاقة بالاتجاه اللحني الذي امتازت به موسيقى نيتشه؟
استمرت محاولات نيتشه في التأليف الموسيقي، رغم الانتقادات التي طاولته. ولعله نظر لمؤلفاته بوصفها استكمالاً لمشروعه الفلسفي، هو الذي صارع التجهم الأكاديمي والمنهجي. وفي عام 1887، أرسل نسخة من "هيمنوس"، وهو مؤلف للكورال، لقائد الأوركسترا هرمان ليفي، مرفقاً بعبارة أشار فيها إلى أنه لم يسبق لفيلسوف أن كان في جوهره موسيقياً كما حصل معه، وأضاف لتلك العبارة تلميحاً إلى فشله التام كموسيقي. هل كان يرغب في التأكيد إلى أي حد اتصلت فلسفته بالموسيقى، وكأنه توق إلى الكمال؟
ربما كان عازف الكمان وقائد الأوركسترا في أوبرا زيورخ، فريدريك هيغار، الأكثر ليناً في انتقاده، فمن وجهة نظره افتقر نيتشه للأسس المعمارية، واصفاً أعماله بأنها "ارتجال مثير للعواطف أكثر من كونها بناء منتظماً". كان لدى نيتشه تصور واضح عن تعارض الفلسفة والفن، فالفنان يتصرف تجاه الواقع الرؤيوي، بينما الفيلسوف يتعامل مع الواقع الوجودي.
لكن أحلام نيتشه كانت أشبه بالعزم، أو بالإرادة التي لم تكن سوى إجحافاً في التعبير الفني. فمخيلة نيتشه الموسيقية ظلت اشتقاقاً عاماً للموسيقى الرومانتيكية، وفشلت في إحاطتنا بأي ملمح ابتكاري، إذ تغدو مزيجاً من التصورات المُركبة.
وبصورة عامة، كان يمكن لموسيقى نيتشه إخراج بعض أفكاره الفلسفية إن تم تناولها من جانب تأويلي. فهي تتنوع بين المرح والتأمل وبين العاطفة المُترفة بالحزن إلى جذور الترانيم البروتستانتية. وفي الوقت نفسه، كانت صورة مضحكة عن التدهور الموسيقي في القرن التاسع عشر. وبالنسبة لـ نيتشه الذي افتقر للبناء، عجزت مخيلته عن تطويع الخصوبة اللحنية لتغطية ضعف بنائه الموسيقي.
على صعيد آخر، تثير بعض مؤلفاته الجانب المرهف من شخصيته؛ التراوح بين العاطفة المتقدة والارتعاشات المتشنجة. تثير مقطوعته للبيانو "أحزان البطل" تلك اللمحات المرهفة، كذلك حضور السمة العاطفية. عدا أنها تبدو مسجونة أو غير قادرة على النفاذ في روح الموسيقى. فاللحن الثيمي يظل عاجزاً عن التطور، بالدوران حول نفسه، مع وجود تنقلات محدودة لا تنم عن براعة.
بدأت علاقة نيتشه بالموسيقى مبكراً. في العاشرة من عمره تعلم العزف على البيانو. عندما كان في التاسعة عشرة، وضع مقطوعة للبيانو والكمان بعنوان "عيد الميلاد"، تحاول الاتكاء على المفهوم الأبولوني، إذ لم تبدُ في أسلوبها شديدة السذاجة، وهو أمر لا يبرره عمره الصغير، فلم يكن هناك ما ينبئ بموهبة.
وبالنظر إلى أعماله في فترات متنوعة، من الصعب العثور على أي تطور بنيوي أو تقني واضح. وعلى خلاف ذلك، ربما تمتع بتطور على صعيد الأفكار الموسيقية. وهو ما تعبر عنه مقطوعته "تأملات مانفرد" المستوحاة من قصيدة للشاعر الإنكليزي بايرون. لطالما كان نيتشة معجباً ببطل بايرون مانفرد، باعتباره صورة للإنسان الأعلى، لكن دافعه لتأليف هذا العمل كان رداً على مانفرد شومان التي اعتبرها "غلطة وسوء فهم حد التشويه".
ورغم أن هذا العمل الذي صاغه وهو في الثامنة والعشرين اتخذ افكاراً موسيقية توسعية، إلا أن معالجته كانت مخيبة للغاية. فالفشل العام يتعلق بالصورة الثيمية، وعجزه عن إيجاد تعبير ثيمي، كما أن الخطوط الهارمونية التي تكرسها أربع أيادٍ على البيانو لم تنزع عن نيتشه جريمة افترائه على الموسيقى.
هذا الأمر ما وصفه قائد الأوركسترا وعازف البيانو هانز فون بولوف عن هذا العمل، مشيراً إلى أن المقطوعة متطرفة في بذخها، وفي نفس الوقت هي الأكثر معاداة للموسيقى، متسائلاً عن السبب الذي يدفع روح مستنيرة مثل نيتشه بالغرق في تشنجات البيانو.
و"التشنجات" هي الصيغة التي نراها في كل أعمال نيتشه، كعدم قدرته على إطلاق العنان لأفكاره الموسيقية. وبشكل مختصر، فإن ألمعية نيتشه الفلسفية تصرفت مع العالم الرؤيوي بحس فلسفي أكثر منه موسيقياً. مع أنه في كتابه "مولد التراجيديا" يضع حدوداً بين الفلسفة والفن، خالقاً تصورات ذهنية على حساب الروح التجريدية للموسيقى، والمتعلقة بمعالجات نغمية بنيوية، وليست آمالاً شعرية.
والواضح أنه كلما تطورت أفكار نيتشه الموسيقية أو تصوراته المعقدة، تتزاحم المضامين الموسيقية، ويقع في افتراءات أكثر قسوة على الموسيقى.
على سبيل المثال، في عمله للكورال، "هيمنوس" (ترنيمة)، يعجز عن التخلص من جذور الترانيم البروتستانتية، وإن فرض على التآلفات صيغ متعارضة. لكن الخطوط اللحنية بصورة عامة، تراهن على العجز المستمر الذي تعانيه أعمال نيتشه في إطلاق العنان لجموحها التعبيري. فالتوتر اللحني أصبح مركباً مستقراً، ولم يجد نيتشه طريقاً إلى معالجته أو تطوير ثيماته.
ماذا يمكن اعتبار ذلك بالمقارنة مع أغاني شوبرت، وإن بدت مثل هذه المقارنة شديدة الظلم، فنيتشه لا يمكن تصنيفه موسيقياً متوسطاً.
وبالعودة إلى ترنيمته شديدة القتامة، وهي من آخر أعماله الموسيقية، كانت الموسيقى بطبيعتها أشبه بتصوره للشذرات، لكن بتصور مختنق غير قادر على الإيضاح الموسيقي.
وفي الواقع، كانت اللغة محور براعة نيتشه؛ إذ تمتع بأسلوب زاوج بين الفلسفة والرواية وفنون أخرى بما فيها الموسيقى. وفي حين تطورت قدرته الفلسفية ظلت إمكانياته في الموسيقى محدودة للغاية.