في عرضه الجديد، "سفينة الحب"، يدخل المخرج السوري نوّار بلبل فضاء البحر، ويسلّط الضوء على أولئك المدنيين السوريين، الذين يخاطرون بعبوره، من أجل حياة آمنة في أوروبا هاربين من الحرب والموت، وقبل أن تبتلع الأمواج العاتية مراكبهم الصغيرة، وتلقي بهم على شواطئ مهجورة قليلاً ما يكترث لها أحد.
كيف يفتح بلبل هذا الملف الإنساني الشائك، هل يعتمد الوثيقة، أم التّخييل؟ في حديث مع "العربي الجديد"، يقول مخرج العرض الذي ينطلق يوم المسرح العالمي، 27 الشهر الجاري، في "المركز الثقافي الفرنسي"، في عمّان: "لست بصدد عمل وثائقي، فقد تابع الإعلام أخبار الآلاف من غرقى الهجرة عبر البحر، ودخلت أسماؤهم لوائح الموت، التي تعدّها منظمات حقوق الإنسان".
ويضيف "لكنني بصدد عرض مسرحي يتناول قضية اللجوء من منظور إنساني. وبأدوات فنية بحتة، أذهب إلى منطقة مغايرة تماماً، تعتمد على الخيال، لكنها تنبع من حياتنا، وتتناول مآسينا بحس كوميدي ساخر".
لماذا الكوميديا؟ سألناه، ليجيب: "أريد أن أسخر من كل أشكال القهر والاستبداد، ومن القتل والجوع والإعاقة والنزوح. أريد أن أنتقل إلى مناطق الحياة والفرح، وأجعل المتلقّي يضحك. أعتقد أننا بذلك نفوّت الفرصة على الجلاد بأن يشعر بنشوة النصر على الضحايا".
يبدأ العرض مع دخول الراوي إلى الخشبة، إذ يبدأ في الحديث عن فرقة مسرحية حرّة، كان لها رصيدها الفني وجمهورها، قبل أن تنطلق شرارة الثورة السورية، ثم يتفرّق أعضاؤها كلٌ في مكان ما بين مخيمات اللجوء والمدن الأوروبية، كما كل السوريين.
بعد خمس سنوات، يتواصل الأعضاء ويقرّرون الاجتماع من جديد، كي يجرّبوا "حظّهم" في اللجوء، وكي يُحيوا فرقتهم، ويقدّموا عروضهم في أوروبا، وهكذا يلتقون جميعاً على متن القارب، الذي سيبحر بهم إلى المجهول.
سيكون القارب الخشبي المزيّن بالقلوب وكلمات الحب، هو الديكور الوحيد الذي يتوّسط الفضاء المسرحي، وفيه ستبدأ تفاصيل الحبكة بلقاء أعضاء الفرقة، وهم سبعة أشخاص، يمثّلون المجتمع السوري باختلافه، تتراوح أعمارهم بين سبعة أعوام وحتى الخمسين، يعانون من إصابات في أجسادهم؛ فبعضهم مشلول وبعضهم مبتور الساق أو اليد، أو من دون قدم.
يتعانقون ويحكي كل منهم للآخر، عن العذابات التي تعرّض إليها خلال السنوات الماضية، ومع قصصهم المؤلمة، تنفتح العديد من القضايا الساخنة، بدءًا من ملف جرحى الحرب المدنيين، جرّاء إلقاء طائرات النظام للبراميل المتفجّرة، مروراً بالاختفاء القسري والتعذيب، فاغتصاب النساء في السجون، وصولاً إلى حمّى النزوح.
في هذا السياق، يشير مخرج "شكسبير في الزعتري" إلى معالجته لقضية الاغتصاب المزدوج، مفسراً "السجينة تُغتصب من قبل سجانيها، ومن قِبل مجتمعها، حين ينظر إلى معاناتها كوصمة عار، فقد يطلّقها زوجها، وربما يقتلها أهلها حفاظاً على الشرف، وإذا كانوا رحيمين معها، فإنهم يجبرونها على الزواج لستر فضيحتها".
يكمل المخرج والممثل أيضاً "عالجتُ الموضوع من خلال شخصية ناشطة ميدانية، تحكي أنها اعتُقلت مئة وسبعين يوماً، وفي كل يوم كانت تُغتصب، وبعد خروجها من السجن، اغتصبها مجتمعها ألف مرة، وحين يحاول زملاؤها إسكاتها، لأنها تكشف المستور، تقول لهم: "اغتصابي تاج على راسكون، تاج على ثورتكن". هكذا أفهمُ الثورة، وأعتقد أن كل من يريد أن يثور ضدّ النظام، عليه قبل ذلك أن يثور ضدّ نفسه".
يتطوّر مسار الحبكة المسرحية، مع خط سير الرحلة، في مشهد واحد، وزمن يتطابق مع مدة العرض، وتعتمد الحبكة في بعض جوانبها، على تقنية المسرح داخل المسرح، حين يتعلّق الأمر بالإشارة إلى تغيّر المحطات والأمكنة.
حول باقي عناصر العرض، وطاقم التمثيل، يقول بلبل: "كتبتُ النص ثم تطوّر عبر تقنية الارتجال، أثناء البروفات مع الممثلين، وجميعهم من الهواة ومن اللاجئين السوريين، بعضهم ممن عوّقتهم الحرب، وآخرون من المعتقلين الناجين. كنت ألاحظ أنهم يذهبون نحو التهكّم والضحك، وهم يروون قصصهم المأساوية، وهذا ما شجعني على التمسّك بروح الكوميديا الساخرة في كل تفاصيل العرض".
يتابع صاحب "ولا شي" أن مسرحيته مكشوفة تماماً للجمهور حتى في إعداداتها، مبيناً: "ليس لديّ كواليس، يرتدي الممثلون زيهم أمام الجمهور، وأمامه يصنعون إكسسواراتهم. الإضاءة من داخل العرض، والموسيقى حيّة يعزفها عدنان الرجّال على الكمان".
عن مشهد الختام يقول: "تهبّ الرياح، وتشتد شيئاً فشيئاً، وتبدأ الفرقة بمواجهة مصيرها، وهي تردّد مشهد العاصفة في "الملك لير"، ويبدأ المنولوغ بسبعة ممثلين، ثم ستة، فخمسة، حتى يغرق المركب، ومعه الممثل الأخير، وتطفو على وجه الماء آلة الكمان والإكسسوارات والعكاكيز".
اقرأ أيضاً: "رسائل وطن": تليين زوايا العزلة الألمانية