نوتردام.. يخمد الحريق ولا تخمد هذه المعارك

21 ابريل 2019
(حشود تراقب حريق الـ نوتردام، بونوا تيسييه)
+ الخط -

من عادتي، عندما أزور باريس، أن أمرّ على "معهد العالم العربي"، ومن هناك أقطع جسر "تورنيل" كي أذهب إلى جزيرة "سان لويس" في تقليد لي قديم. في السنة الماضية، وعلى ذلك الجسر، كان يمرّ رجل على الرصيف المقابل معتمراً قبعة ومرتدياً معطفاً داكن اللون، وتظهر من ورائه الواجهة الخلفية لـ كاتدرائية نوتردام، في منظر بدا لي بديعاً.

قلتُ إن هذا المشهد يستحق التصوير. تناولتُ هاتفي والتقطت تلك الصورة الرومنتيكية التي رسمتُها في خيالي، وحدّثت نفسي أنني حينما سأفرغ من زيارتي، سأحوّل اللقطة إلى الأسود والأبيض وأضعها على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي مع كلمة تخص باريس؛ المدينة التي درستُ وأقمت فيها لعدة سنوات.

في طريق عودتي من الجزيرة السياحية الصغيرة، مررت محاذياً الكاتدرائية، دخلتُ مخازن "الذكريات الباريسية"، أتجوّل بعينيَّ بين الرفوف، ثم أكملت الطريق حتى اخترقت ساحتها، حيث الزوار والسياح يرطنون بكل لغة، متابعاً طريقي إلى الحيّ اللاتيني ومنه إلى محطة المترو.


■■■


يُرسل لي صديقٌ، مساء الخامس عشر من نيسان/إبريل، صورة للكاتدرائية يتعالى دخانٌ منها وأعمدة لهب. سألته: ما هذا؟ وما من إجابة غير "اللعنة"... على من؟ لا ندري. دخلتُ مسرعاً إلى النت وبحثتُ فيه: إنها فعلاً تحترق. شاشة التلفاز أمامي وما بين يديَّ صفحات التواصل الاجتماعي. عينٌ هنا وعين هناك.

تعليقات وتحليلات وخبراء في الكوارث الطبيعية كما في تاريخ العمارة... أصدقاء من "قلب الكارثة"، يرسلون مشاهدهم وردّات فعلهم. رسّام شاب يكتب أنّ قلبه ينفطر على المشهد، ناشر تملأ عينيه الدموع، شاهدة عيان تقول إنها لا تصدق ما يحدث أمامها. كذلك أنا... أتابع مذهولاً، كيف لهذا أن يحدث.

الرئيس الفرنسي ماكرون يؤجّل خطاباً له بشأن "السترات الصفر". ترامب يغرد مطالباً باستخدام الحوّامات لإطفاء الحريق. ينهار البرج أو السهم أمام أعيننا وتنطلق التأوهات من قبل الجموع. يقول المذيع إن هذا البرج قد أُضيف حديثاً على البناء. يتحوّل لون الدخان المتصاعد من لون إلى آخر، دلالة على أن الحريق بدأ يأكل مواد أخرى من جسم البناء لم أعد أذكر ما هي.

يصل ماكرون إلى موقع الحريق، الرئيس الشاب يواجه الكاميرا، ويعد الأمّة الفرنسية بإعادة بناء الكاتدرائية كما كانت والنار تلتهمها من ورائه. تستعر النار في المكان كما في مواقع التواصل الاجتماعي. تنتقل معاركنا إلى هنا، يشمت هؤلاء ويرد عليهم أولئك.


■■■


يخمد الحريق ولم تخمد هذه المعارك. بل يزداد سعيرها بازدياد المبالِغ التي يتبرّع بها رجال أعمال ومؤسسات وأفراد. تدخل كل مشاكل العالم في عملية المقارنة. كل هذه الملايين لكي يعاد بناء معبد ديني، وماذا عن المحتاجين والجياع في القسم الآخر من الكرة الأرضية، وماذا عن دمار بلاد بأكملها وأوابد لا تُقدّر بثمن في شرقنا المنكوب من الموصل إلى حلب إلى تدمر؟


■■■


صدمة الكثيرين منّا لم تكن على الرمز الديني أو الصرح المعماري، كانت بالتأكيد صدمة تتعلّق بالفقدان، بالذكريات، بألفة المكان، بمتابعة احتراقه على الشاشة أو على الأرض مباشرة. فلا يهم في النهاية شماتة أو تشفّي الناس، ولا معرفة سبب الحريق ولا تبعاته، ولا قيمة التبرعات التي ستعيد بناءه، ولا شكله حينما تنتهي عمليات الترميم، فالحريق التهم شيئاً من الروح بالنسبة إليهم لن يعود. هو اعتداء على الذاكرة لا يحق للنار أو لأي كائن أن يقوم به، هنا أو هناك، تحت أي مبرر أو أي عذر.

ونميل في الحقيقة إلى فكرة أن فيكتور هيغو هو من أعطى الكاتدرائية شهرتها العالمية، بروايته "أحدب نوتردام"، كما أعطى الرسام كلود مونيه شهرة لكاتدرائية روان. هذا عدا عن أن هناك في فرنسا ما يضاهيها جمالاً إن لم يكن أجمل؛ كتلك التي في مدينة أميان أو في مدينة ألبي، كما يحلو للبعض التقييم. ويؤكد فكرتَنا ربما كمّ المبيعات الذي حقّقته الرواية (نشرت سنة 1831) في اليوم التالي للحريق؛ إذ حازت أكبر نسبة مبيعات على موقع "أمازون". كذلك حضر وجه كازيمودو، الأحدب في الرواية، في أغلب الرسومات الصحافية التي تناولت الحدث الفاجعة، أكثر مما حضر وجه "سيدة باريس" أو أي رمز ديني آخر.


■■■


قبل أقل من شهر، زرت باريس مجدداً، وذهبت إلى "سان لويس" لكني عدت من نفس الطريق... لم تكن هناك أي إشارة من الغيب تقول لي: اذهب وودع الكاتدرائية فلن تراها مجدّداً كما ألفتها.

تذكّرت اليوم أنني لم أنشر صورة الرجل تلك، ذي المعطف الداكن والقبعة والكاتدرائية. بحثت عنها في هاتفي فلم أجدها هي الأخرى.. يبدو أنني قد محوتها.


* فنان تشكيلي سوري

المساهمون