لم ينفك رؤساء الولايات المتحدة الأميركية من الحديث عن توجههم نحو نقل مقر سفارة بلادهم من تل أبيب إلى القدس منذ منتصف الثمانينيات وبالتحديد في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب (1981-1989).
وهذه التصريحات بالطبع كانت قائمة على أساس "قانون القدس" الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي في 30 يوليو/تموز 1980، والقاضي "بأن القدس عاصمة لدولة إسرائيل" على الرغم من قرار مجلس الأمن الذي أعقبه؛ اعتبر "قانون القدس" الصادر عن الكنيست باطلاً ويتعين إلغاؤه، كما اعتبر أن "نقل السفارة إلى القدس بمثابة خرق للقانون الدولي".
ولعلَّ الخوف من انتفاضةٍ شعبيةٍ فلسطينيةٍ كبيرةٍ وردود فعلٍ عربيةٍ ودوليةٍ رافضةٍ لمثل هذا القرار عدا عن تحدى قرار مجلس الأمن الصادر عام 1980؛ هو ما كان يُجبر رؤساء الولايات المتحدة على توقيع قراراتٍ دوريةٍ تقضي بتأجيل نقل السفارة "من أجل حماية المصالح القومية للولايات المتحدة" كل ستة أشهر، منذ أن تبنَّى الكونغرس الأميركي قانوناً يقضي بنقل السفارة إلى القدس عام 1995.
ترامب والقدس
لم تخلُ خطابات الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب من التطرّق إلى توجهات الولايات المتحدة تحت إدارته لنقل مقر سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس بعد تنصيبه في كرسي الرئاسة بوقتٍ قصيرٍ. وهذا السلوك بالتأكيد ظهر خلال الدعاية الانتخابية الأميركية، حيث صرَّح ترامب وعددٌ من مستشاريه بأنه في حال فوزه فسوف تعترف الإدارة الأميركية الجديدة بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ويُطبق قرار مجلس النواب الأميركي بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس. وهو ما قُوبل برضى أو على الأقل بصمتٍ من جانب الشارع الأميركي الذي بدا وكأنه لا يفهم إلا اللغة التي تحدث بها ترامب.
وتأكيداً على مخططاته؛ أدلى ترامب بهذه التصريحات في لقاءٍ جمعه برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في نيويورك، في سبتمبر الماضي. ثمَّ أعاد مستشار ترامب لشؤون إسرائيل، جيسون غرينبلت، هذه التصريحات في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي.
وفي تصريحات لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية؛ قال المستشار السياسي للرئيس الأميركي وسفير واشنطن لدى تل أبيب، ديفيد فريدمان، إن ترامب ملتزم بالوعود التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، وهي نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وأنه سيعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
وفي هذه الحالة نكون أمام تساؤل مشروع؛ إلى أي مدى يمكن للسيد ترامب أن يلتزم بتصريحاته وينقل السفارة إلى القدس؟ وهل من الممكن أن ينفذ ما لم ينفذه ثلاثه من الرؤساء الأميركان الذين سبقوه؟
العرب والفلسطينيون والقدس
في قراءة المراقبين؛ تبدو التصريحات الصادرة عن الإدارة الأميركية الجديدة في جوهرها جادةً لأبعد الحدود، ويبدو أنَّ الرئيس ترامب يحمل اختلافاً كبيراً في سياسته تجاه العرب والفلسطينيين، ولقد سمعنا وشاهدنا ماذا قال عن الحماية الأمنية والعسكرية الأميركية في المنطقة العربية، وعن النفط العربي ، وحتى عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
حالة الضعف والانقسام العربي وتداعيات الحروب المشتعلة في المنطقة العربية وانشغال العرب بتبعات الربيع العربي والانقسام الفلسطيني والمشهد السياسي الفلسطيني المأزوم والسيطرة الإسرائيلية الفعلية على حوالي 90% من مساحة الضفة الغربية وعدم تصدر القضية الفلسطينية أولويةً بالنسبة للقوى الكبرى بعد اشتعال الحرب الأهلية في سورية؛ يجعلون من الوقت الحالي بمثابة الفرصة التاريخية لنقل مقر السفارة إلى القدس.
وهذا يعتبر بمثابة اختبارٍ صعبٍ للقيادة الفلسطينية والعربية التي ما انفكَّت وهي تراهن على دور الإدارة الأميركية في عملية السلام في المنطقة، وهو أيضاً ما يثير مخاوف القيادة الفلسطينية ويجعلها تعيش في حالة من التخبط والارتباك وعدم الارتياح والخوف على حاضر ومستقبل السلطة الفلسطينية، وهذا ما بدا واضحاً من خلال ردود الفعل الفلسطينية الغاضبة على تصريحات ترامب ومستشاريه.
وقد بدا ذلك واضحا في مناشدة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) للرئيس ترامب بعدم نقل السفارة الأميركية للقدس والتلويح بأن نقل السفارة ستترتب عليه آثار مدمرة على عملية السلام وخيار حل الدولتين وأمن واستقرار المنطقة، على اعتبار أن قرار سلطة الاحتلال بضم القدس الشرقية لاغٍ وباطل ومخالف للقانون الدولي.
نقل مقر السفارة بالنسبة لأميركا
أما ما قد يمنع أميركا من نقل مقر سفارتها الى القدس، فليس الجيوش العربية، ولا سلاح النفط، ولا محاصرة إسرائيل وضربها، ولا حتى التهديد باستقالة السلطة الفلسطينية التي تحاول الحفاظ ما أمكن على مصالح كوادرها، بل هو احتمال تجدد انتفاضة القدس الثالثة والتي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2015 ولم تتوقف بعد، وفي هذه المرة ستجد إسرائيل نفسها في مواجهةٍ مفتوحةٍ وطويلة الأمد مع المقاومة المسلحة والشعبية بكل الوسائل المتاحة والممكنة، بمعنى أنَّ إسرائيل ستواجه عسكرة وتسليح الانتفاضة، وهو أمر لا تُحمد عقباه بالنسبة للقيادة الإسرائيلية.
احتمالات نقل السفارة
المشهد السابق يجعل القارئ في حيرة من أمره؛ تصريحات وتأكيدات بنقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس وصعوبة التراجع عن الموقف/ الوعد الأميركي، في مقابل تطورات وتداعيات سلبية متوقعة ضد إسرائيل، وغضب فلسطيني وعربي كبير، وهو ما يعني أنَّ الإدارة الأميركية تواجه تحديات صعبة وكبيرة وعلى ما سبق، نكون أمام احتمالات ثلاثة:
أن تكون تصريحات ترامب مجرد تصريحات انتخابية كان الهدف منها كسب الأصوات اليهودية والاستفادة منهم في تنفيذ بعض السياسات والخطط الخاصة بالإدارة الجديدة وأن تسير الإدارة الجديدة على نهج من سبقها، وهذا ما بدا منذ أيام فقط حينما تحدَّث مستشار ترامب السياسي، وليد فارس، في لقاء مع شبكة BBC: إن "ترامب قصد نقل السفارة إذا حظي القرار بالإجماع".
غير أن ترامب قد يقدم على خطوة أخرى تقوم على إقامة "مكتب للسفير الأميركي في القدس" ويمارس العمل منه، في حين تبقى السفارة الأميركية في تل أبيب، وهو احتمالٌ واردٌ وبقوة، حيث تذهب تقديرات الكثير من المحللين السياسيين الذين يرون هذا الخيار بمثابة "حلٍ وسطٍ" للخروج من هذا المأزق. وقد يبدو هذا الخيار هو الأقرب للتطبيق في ظل صعوبة ومخاطر تطبيق الاحتمال الثاني.
وأخيراً؛ لقد بات الفلسطينيون أمام اختبارٍ صعبٍ للغاية، إما أن يتركوا المخطط يمر فيفقدوا القدس، أو أن يشعلوها انتفاضةً شعبيةً ومسلحةً، وفي كلتا الحالتين ستكون الخسارة في الجانب الفلسطيني مضاعفة، وهذا ما يوجب على الفلسطينيين رص الصفوف من جديد وتجاوز الانقسام والاتفاق على رؤية مشتركة لمشروع وطني فلسطيني يكفل حل الأزمات المتلاحقة التي تحيط بالقضية الفلسطينية.