نقد الحلقة الأولى: تهديد لسلطة وقت الفراغ وصانعيه

09 مايو 2019
يبدو كأن نقد الحلقات الأولى من المسلسل ممنوعاً(Getty)
+ الخط -
يتعامل صناع الدراما مع الأيام الأولى من شهر رمضان، والمتورطون بها، بصورة تشبّه بالصمت الانتخابي؛ فلا يجوز الحديث أو الانتقاد، إذ لم يبث من العمل أو المسلسل سوى حلقة أو حلقتين، ولا بدّ من الانتظار حتى النهاية لتقديم رأي بالعمل أو انتقاده. هذه الحصانة الساذجة ورفض الآراء التي تتناول مشهداً أو حلقة من أي مسلسل، يصادران حق الجمهور قبل حق الناقد؛ الجمهور الذي تمتلئ شاشاته بالإعلانات لمدة شهر لإقناعه بمشاهدة مسلسل ما، ويواجه بالسخرية في حال أعطى رأيه بحلقة واحدة ببساطة لأنها لم تعجبه.

سذاجة هذه الحصانة سببها تناسي شكل البث التلفزيوني، أو حتى ذلك الذي نراه على شاشة الكمبيوتر. نحن أمام "تدفق" من الدقائق والساعات، التي تُضخ كلها في ثلاثين يوماً، والمُشاهد ينظّم ويقطع وقت فراغه للمتابعة اليوميّة. يبرمج زمن عمله ونشاطاته الجديّة، ليتابع ما "يسلّيه" لمدة ساعة أو أكثر. هذا التقسيم، يعني أنه سيد وقته، ومن حقه أن يرفض مسلسلاً ما، أو يتوقف عن متابعته لأي سبب، حتى من دون الانتظار لنهايته؛ فنظرياً، إن بنية كل حقلة ليست مجانيّة، بل مصمّمة لتخلق إثارة أو تشويقاً أو رغبة بالمتابعة، على المستوى الآني، وعلى مستوى العمل ككل.
هذه "الآنيّة" ذات قيمة نقديّة وجماليّة، من حقّ المشاهد ببساطة ألا يتفق معها، وأن يعطي رأيه حتى بأول ثلاث دقائق مما يراه، يسخر ويشتم ، يمدح ويتغنّى؛ لأن هذا "التدفق" على الشاشة- نظرياً- مدروس ومبني بإحكام، من أصغر غرض في خلفية الشاشة، إلى الحوار والأداء.
ويمكن لتفصيل واحد أن ينفّر المشاهد أو أن يجذبه، خصوصاً أن تقنيات البث الآن تتيح إيقاف اللقطة والعودة إلى الخلف أو إلى الأمام. التدفق لم يعد محكوماً بزمن البث، بل بمزاج المتلقي.
الناقد، أو بصورة أبسط، المتابع المهتمّ الذي يدّعي امتلاك موقف جماليّ أو نقدي مما يشاهده، يتعرّض لهجمات أشدّ حين يكتب عن حلقة واحدة، عن مشهد واحد، أو حتى كلمة. لن نضرب أمثلة من الثقافة العالميّة التي نوقشت فيها هوامش أعمال فقط، أو إطارات، أو حتى جمل من حلقات مقتطعة لم يكتمل بثها، لكن لا بدّ من التركيز على الحق بالانتقاد أو الإشارة إلى عطب ما يظهر في حلقة واحدة، بل وإطلاق حكم عليها وعلى المسلسل بأكمله بسبب وهميّة قدسيّة "الكلّ" و"النهاية"، وفي حال أساء الناقد الظنّ أو التقدير، فلا مشكلة في ذلك أبداً، بإمكانه أن يكتب مرة ثانية، أو يكتب أحد آخر يردّ على ما قاله، خصوصاً أن "المشاهدة حتى النهاية" هي استثمار في الوقت والزمن، هي نشاط اقتصاديّ من حق "الناقد" تقسيمه بالصورة التي يراها مناسبة.
مصادرة حق الناقد، أو المهتم بإعطاء رأي في حلقة واحدة، تنفي خاصية جوهرية في منتجات التسلية والترفيه، وهي الاتفاق الضمنيّ بين المشاهد والعمل الفنيّ على المتابعة و"تصديق" ما يحصل على الشاشة. هذا الاتفاق الهشّ الذي يمكن أن يُكسر في أي لحظة، بسبب مشهد واحد أو كلمة واحدة، يمكن أن يكسر شرط "التصديق"، ما يوقف فعل المشاهدة، أو يحولها إلى مشاهدة ساخرة، لكن هذا الشرط ممنوع على الناقد كسره، يُفترض عليه أن يتابع للنهاية، وأن يقبل بشرط "الصانع"، حتى لو لم يتفق مع العمل المنتج في مصادرة لأبسط حقوقه كمشاهد، وهي المزاج، ما يراه على الشاشة من تسلية لم يتفق مع مزاجه وذوقه.

هذه المصادرة صك براءة مؤقت لأي منتج فنيّ بوصفه "لم يكتمل بعد"، في نفي للمكونات الآنية في أي حلقة وأشكال تقديم الحكاية والحبكة، والتي تمهد للنهاية. الأهم، في هذا السياق، أن هذه المكونات ليست بلا معنى في حال لم يكتمل المسلسل، بل هي جزء من حلقة، من 45 دقيقة مصنوعة لتشكّل بنية جزئيّة، يمكن تفنيدها وانتقادها، من دون التمسك بسذاجة مفهوم "الانتهاء" الذي من المفترض أن يحسم كل ريبة أو شكّ حول أي تفصيل، وهذا طبعاً مستحيل التحقيق. مثلاً، هل تفسّر نهاية مسلسل ما كل أشكال الأزياء التي ترتديها الشخصيات في كل حلقة؟ هل تفسر نهاية هاملت طبيعة الأداء الرديء في المسرحيّة المصغرة التي قدمها هاملت نفسها لعمه ووالدته؟ أبسط من ذلك: هل تفسّر نهاية باب الحارة مقدار الرداءة الموجود في كل حلقة من المسلسل؟
سلطة "الكل" هذه تهدد وقت الفراغ وتراه ملكاً لها، وتستهين بـ"مزاج" المتلقي و"نزقه"، وذوقه المتغير دوماً، وتدّعي لنفسها سلطة وهميّة؛ فكما يمكن رمي كتاب بعد بضع صفحات والمرور من أمام لوحة من دون التمعن بها، يحق لأي أحد، مشاهداً أو ناقداً، أن يتناول حلقة واحدة، وإن كان المسلسل أو العمل هشّاً لدرجة أن تهدّد تماسكه أو متابعته مقالة أو رأياً بحلقة واحدة، فهذه مشكلة فيه، لا في المتلقي أو الناقد. كل حلقة هي بنية وكيان لا ندّعي أنه مستقلّ، لكنه في ذات الوقت ليس أسير "الكلّ"، والمفترض أن تكون كل حلقة قادرة على "الدفاع" عن نفسها ككيان تورّط في صناعته المئات في سبيل تسلية آنيّة، وخلق وعد بتسلية أكثر في الحلقات التالية، وإن كان هذا الوعد هشاً لحظة إطلاقه "الحلقة"، فمن حقّنا جميعاً أن نشير ونكتب وننتقد، من دون أيّ اعتبارات للـ"نهاية" أو "الكل".
المساهمون