معتنقو الآراء المطلقة ليسوا قلّة. في حوارٍ مع صحيفة الغارديان انقضتْ على إجرائه عشرة أعوام (من دون أن تفقد الآراء الواردة فيه مقدرتها على استنفار المتجادلين والمحتجّين حتّى أيامنا هذه، أوروبياً على الأقلّ)، قال السير ف. س. نايبول الذي كلّلته نوبل الآداب: "إن بلدانًا تؤجج الحروب الدينية، مثل العربية السعودية وإيران، يجب تدميرها".
وفي حوارٍ آخر أسدى نصيحة أكثر شمولًا في عنصريتها: "اكرهوا الاضطهاد واخشوا المضطهَدين". شائعٌ ويسيرٌ تعميمُ الأفكار المسبقة وتداول الصور الجاهزة، غربًا وشرقًا.
وفي حوارٍ آخر أسدى نصيحة أكثر شمولًا في عنصريتها: "اكرهوا الاضطهاد واخشوا المضطهَدين". شائعٌ ويسيرٌ تعميمُ الأفكار المسبقة وتداول الصور الجاهزة، غربًا وشرقًا.
استرجعتُ مثال نايبول، المتطرّف في دمامته، حين ساهمتُ بترجمة عددٍ من الشعراء السعوديين إلى اللغة الإنكليزية، ضمن أنطولوجيا "أصوات جديدة من جزيرة العرب" في الكتاب الكبير الذي أشرف على تحريره سعد البازعي، وصدر في لندن عام 2012. ترجمتُ بعضًا من شعراء قصيدة النثر السعودية التي تقدّم نماذج راهنة ملفتة.
في مملكة مترامية الأطراف وحّدتْ أمصارًا متباينة الثقافات، من نجد والحجاز إلى عسير والإحساء، تبدو قصيدة النثر منقطعةً عمّا أُنجز قبلها في عالمٍ عدّ الشعر نظمًا، استمرارًا أو تكرارًا وتضخيمًا للأسلاف واهتداءً بهم.
الماضي والقداسة قريبان ومُعاشان ومحروسان في المملكة، حاضران بقوة لا تخفى على أحد؛ قصيدة النثر خروجٌ عنهما بأشكال مختلفة، ضربٌ من المروق الذي لا يأذن الحرّاس بدخوله ديوانَ العرب، فشعراؤها أجنبيون وإن كتبوا باللغة نفسها؛ الأرض التي نزلَ فيها القرآن هي أرض شعر ما قبل الإسلام ومعلّقاته ومهد لسان العرب، هي مركز الثقل، تاريخيًا واقتصاديًا، عربيًا وإسلاميًا، والتصوّر الشائع أو بالأحرى التصوّر المطلوب حول الشعر هو العودة إلى الأصل، لا الافتراق عنه.
أحد أشكال هذه العودة هو الشعر الموزون، وكأن المساس بأطناب هذه الخيمة الصلبة الأركان سيهدّ بنيان الثقافة ويخلّ بقيمها. هذه العودة لا تني تُستهلك، عصية على الاستنفاد حتى هذه الأيام، في موضوعات وأغراض الشعر التقليدي، في المراثي والمدائح والفخر وغيرها؛ تتواتر مصادفتها عبر وسائل الإعلام بشاشاتها ومطبوعاتها، والمملكة تمتلك قسطًا وفيرًا منها في العالم العربي. سُبكت مطوَّلات عن التعاطف مع الأشقاء المنكوبين في بلدان الربيع العربي، وأطنب شعراء في استرجاع محمّد الدرّة وجميلة بوحيرد وسناء محيدلي وسارة العتيبية المقاومة الكويتية ضدّ جيش الغزو العراقي.
في مملكة مترامية الأطراف وحّدتْ أمصارًا متباينة الثقافات، من نجد والحجاز إلى عسير والإحساء، تبدو قصيدة النثر منقطعةً عمّا أُنجز قبلها في عالمٍ عدّ الشعر نظمًا، استمرارًا أو تكرارًا وتضخيمًا للأسلاف واهتداءً بهم.
الماضي والقداسة قريبان ومُعاشان ومحروسان في المملكة، حاضران بقوة لا تخفى على أحد؛ قصيدة النثر خروجٌ عنهما بأشكال مختلفة، ضربٌ من المروق الذي لا يأذن الحرّاس بدخوله ديوانَ العرب، فشعراؤها أجنبيون وإن كتبوا باللغة نفسها؛ الأرض التي نزلَ فيها القرآن هي أرض شعر ما قبل الإسلام ومعلّقاته ومهد لسان العرب، هي مركز الثقل، تاريخيًا واقتصاديًا، عربيًا وإسلاميًا، والتصوّر الشائع أو بالأحرى التصوّر المطلوب حول الشعر هو العودة إلى الأصل، لا الافتراق عنه.
أحد أشكال هذه العودة هو الشعر الموزون، وكأن المساس بأطناب هذه الخيمة الصلبة الأركان سيهدّ بنيان الثقافة ويخلّ بقيمها. هذه العودة لا تني تُستهلك، عصية على الاستنفاد حتى هذه الأيام، في موضوعات وأغراض الشعر التقليدي، في المراثي والمدائح والفخر وغيرها؛ تتواتر مصادفتها عبر وسائل الإعلام بشاشاتها ومطبوعاتها، والمملكة تمتلك قسطًا وفيرًا منها في العالم العربي. سُبكت مطوَّلات عن التعاطف مع الأشقاء المنكوبين في بلدان الربيع العربي، وأطنب شعراء في استرجاع محمّد الدرّة وجميلة بوحيرد وسناء محيدلي وسارة العتيبية المقاومة الكويتية ضدّ جيش الغزو العراقي.
رغم كثرة الأحاديث عن محدودية الدعم الذي تتلقاه الثقافة عمومًا، تكثر في المملكة ملتقيات الشعر وأسواقه، وتكثر المسابقات والمباريات الشعرية والجوائز والنوادي الأدبية والمهرجانات الثقافية التي يحتشد فيها الزوار وموسوعات التراث الضخمة، وقد لا يخرج هذا الاهتمام أحيانًا عن حفاوة بالفلكلور، أو لا يعدو دراسات نقدية محدودة تنشر في رسائل جامعية، ليقرأها المختصّون وباحثو الأنثروبولوجيا غالبًا لا القراء العاديون.
إن تعريف الشعر وتعيينه عبر نسب الشعراء إلى بلدان وأمكنة أمرٌ حديث نسبيًا، ومثله كذلك تبحّر البعض في الموروث المحلي، والإلحاح على ثراء المحكية كعلامة فارقة في الهوية، كما هو الحال في الشّعر النبطي. لا تكمن الأصالة في قرض الشعر العمودي فحسب أو الفروسية. التراث يصنعه الوحيدون والعاديون أيضًا، لا المكرَّسون والمشاهير والأفذاذ فحسب، أو أصحاب الحظوة والفخامات وذوو الألقاب.
قصيدة النثر موصومة بالسعي إلى المواضيع الأجنبية (الغربية عادة)، كأنها ملتقى الأصداء المتوافدة من أمكنة بعيدة لترتطم بالرواسخ من أعمدة الماضي، وربما لا تزال تُعتبر ضربًا متلعثمًا من التجريب ليس إلا ضلالًا وعقوقًا، شططًا وتيهًا وراء سراب.
قصيدة النثر موصومة بالسعي إلى المواضيع الأجنبية (الغربية عادة)، كأنها ملتقى الأصداء المتوافدة من أمكنة بعيدة لترتطم بالرواسخ من أعمدة الماضي، وربما لا تزال تُعتبر ضربًا متلعثمًا من التجريب ليس إلا ضلالًا وعقوقًا، شططًا وتيهًا وراء سراب.
لكن الكثير من المآزق التي قيل إن الشعر يواجهها كانت في الواقع مشكلات بلاغية زائفة، والقول إنه ابن بيئته جعل النقّاد المدرسيين كعلماء الأنساب يعلّقون الشاعر إلى شجرة عائلته التي تضرب بعراقة أسمائها بين أهل ملّته وأهل لسانه.
في مثل تلك الظروف ليس هيناً أن يختار شاعر قصيدة النثر الهشاشة الهادئة في ظلال اللغة، حيث خفوت النبرة وذاتيتها وانفتاحها على العالم، بعيداً عن شساعة التراث العربي وداخله في آنٍ معاً، اقترابًا من شاعر معاصر كبسّام حجار وابتعاداً عن نجوم كأدونيس أو محمود درويش. شعراء قصيدة النثر السعودية في خفائهم النسبي لا يُلزمون أنفسهم بالمتفق على اعتباره سعوديًا أو عربيًا. بإخلاصهم للأدب الكونُ حقهم بالولادة.
في مثل تلك الظروف ليس هيناً أن يختار شاعر قصيدة النثر الهشاشة الهادئة في ظلال اللغة، حيث خفوت النبرة وذاتيتها وانفتاحها على العالم، بعيداً عن شساعة التراث العربي وداخله في آنٍ معاً، اقترابًا من شاعر معاصر كبسّام حجار وابتعاداً عن نجوم كأدونيس أو محمود درويش. شعراء قصيدة النثر السعودية في خفائهم النسبي لا يُلزمون أنفسهم بالمتفق على اعتباره سعوديًا أو عربيًا. بإخلاصهم للأدب الكونُ حقهم بالولادة.