01 يونيو 2017
نقائض العولمة
تنتج الأشياء نقائضها أحياناً، وتحوي في داخلها، بذور تفكّكها.
إعلان الولايات المتحدة الأميركية نفسها قطباً أوحد للعالم، وقوة هيمنة عظمى، أدى، في نهاية المطاف، إلى إيجاد لاعبين صغار "إرهابيين" كثيرين يستهدفونها ويؤذونها، وبشكلٍ يصعب حتى على "قوةٍ عظمى" مواجهته وهزيمته، من دون خسائر كبرى، اقتصادية وسياسية وعسكرية، والأخطر، أخلاقية.
أنتج نموذج القوة العظمى العسكري الذي كان "صفر خسائر"، كما يشرح الفيلسوف الفرنسي الراحل، جان بودريار، نموذجاً معاكساً تماماً، نموذجاً "يقتل نفسه ليقتلك"، كما يشرح، في تحليله "ذهنية الإرهاب"، بعد أحداث "11 سبتمبر". وبالتالي، تم تكبيد النموذج الأول خسائر باهظة، بسبب من لا يبالي بخسائره، ومستعد للتضحية بأي شيء، ليفرض وجوده عالمياً.
وأدت محاولة فرض قيمٍ ليبرالية، عابرة للقارات والثقافات، لتخدم عولمة السوق، إلى ما هو أخطر بكثير من تفكّك الهويات، أو تهميش قيم هذا الشعب أو ذاك، وإلى انتشار الأصولية بشكل معولم، وإنتاج أصولياتٍ دينيةٍ عابرةٍ للثقافات والقارّات أيضاً. كما أنتج، كردة فعلٍ ربما، شعوراً عالياً بالهويات الضيقة، ساعدت أدوات العولمة على انتشاره، وتعزيزه، بما يناقض صلب العولمة، وغايتها الأسمى تجاوز هذا كله تحت مظلة السوق الواحدة.
انعكست الهجرات أيضاً. وأدى دعم الغربيين الدكتاتوريات في المنطقة العربية إلى تدمير ما تبقّى منها، ليُحدث حالة هجرةٍ اجتاحت أوروبا، شبّهها أحد الفلاسفة بـ "التيه العبراني" في الروايات التوراتية. لكنها أوجدت هجرةً مضادّة، أكثر عنفاً، من أوروبا هذه المرّة، ودول أخرى "مستقرة"، إلى المناطق العربية المدمرة، لا على شكل شركات إعمار رأسمالية عابرةٍ للقارات، وإنما على شكل مقاتلين يحملون السلاح، وينخرطون في الصراعات العسكرية الدائرة هنا، ثم يعودون إلى ديارهم، ناقلين تجاربهم المميتة.
منحت العولمة رؤوس الأموال، والقوى العاملة، والبضائع، حرية التنقل، وبشّرت بتجاوز الهويات الضيقة، على وقع طبول انفتاح السوق، و"القرية الواحدة" العالمية، لكنها منحت، وبأدواتها، كل ما يسبّب الشعور بالهويات الضيقة، ويعزّزها. فانتقال القوى العاملة بين قارات العالم جعل "الآخر" يسكن بالقرب مني، وأراه كل يوم، ما أدى، وبشكل تلقائي، إلى محاولة إبراز هويتي وترسيخها. صحيح أن ردة الفعل هذه ليست حتميةً، فهناك من ينجو. لكن، هناك من يتورّط أكثر.
لا يمكن أن تخطئ رؤية هذه الظاهرة "ترسيخ الهوية المحلية، بسبب الشعور بتهديد الآخر" في دول الخليج التي تعاني من خللٍ ديموغرافي، حيث يصبح كل ما هو رمزي مثيراً للجدل، خشية من ضياع تقاليد، يُنظر إليها باعتبارها مهدّدة من طوفان بشري، يتحدث بمئات الألسن، في دول يشكل المواطنون فيها "أقليةً" بالمعنى الحرفي للكلمة، وسط أغلبيةٍ "عاملةٍ" مهمشة ومعزولة، وعابرة، ولا يبدو أن هناك محاولات لفهمها.
نتائج التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، في بريطانيا، هزت قناعاتٍ كثيرة بشأن التكتلات الكبرى، وحرية السوق. فالعالم، والذي بدا في لحظةٍ ما، كأنه يتجه إلى تعزيز التكتلات الكبرى، مجموعة بريكس، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة شنغهاي، والاتحاد الأوراسي ...إلخ أوضح أن الردة ممكنة أيضاً، وبشكلٍ صادم، ومن قوة عظمى (ولو اسمياً كما تظهر سجلات الأمم المتحدة).
لكن بريطانيا أيضا، ومن خلال التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أعطت انطباعاً بأن الشباب أكثر قناعةً من غيرهم بالتكتلات الكبرى، والوحدة الأوروبية تحديداً. إذ أظهر انقسام المصوّتين، بشكل ملحوظ، بين شبابٍ وكبار سن، أن العمر لعب دوراً في الانقسام بين رؤيتين لبريطانيا وأوروبا، والعمر هنا يترجم لمعطى اقتصادي، وسياسي، وثقافي، لا مجرد اختلاف بين شبابٍ وشيوخ.
ربما يحمل هذا الانقسام بذوراً لصناعة مستقبلٍ مختلف، لصناعة عولمةٍ أكثر عدلاً، لكن الأمر برمته يعتمد على الخطوات القادمة لدول الاتحاد الأوروبي. هل ستقاتل لبقاء الاتحاد، وازدهاره، وتجاوز الأخطاء (الاقتصادية تحديداً) التي أدّت إلى خروج بريطانيا؟ أم أن العقد سينفكّ في النهاية؟ وربما تتفكّك "المملكة المتحدة" نفسها؟
إعلان الولايات المتحدة الأميركية نفسها قطباً أوحد للعالم، وقوة هيمنة عظمى، أدى، في نهاية المطاف، إلى إيجاد لاعبين صغار "إرهابيين" كثيرين يستهدفونها ويؤذونها، وبشكلٍ يصعب حتى على "قوةٍ عظمى" مواجهته وهزيمته، من دون خسائر كبرى، اقتصادية وسياسية وعسكرية، والأخطر، أخلاقية.
أنتج نموذج القوة العظمى العسكري الذي كان "صفر خسائر"، كما يشرح الفيلسوف الفرنسي الراحل، جان بودريار، نموذجاً معاكساً تماماً، نموذجاً "يقتل نفسه ليقتلك"، كما يشرح، في تحليله "ذهنية الإرهاب"، بعد أحداث "11 سبتمبر". وبالتالي، تم تكبيد النموذج الأول خسائر باهظة، بسبب من لا يبالي بخسائره، ومستعد للتضحية بأي شيء، ليفرض وجوده عالمياً.
وأدت محاولة فرض قيمٍ ليبرالية، عابرة للقارات والثقافات، لتخدم عولمة السوق، إلى ما هو أخطر بكثير من تفكّك الهويات، أو تهميش قيم هذا الشعب أو ذاك، وإلى انتشار الأصولية بشكل معولم، وإنتاج أصولياتٍ دينيةٍ عابرةٍ للثقافات والقارّات أيضاً. كما أنتج، كردة فعلٍ ربما، شعوراً عالياً بالهويات الضيقة، ساعدت أدوات العولمة على انتشاره، وتعزيزه، بما يناقض صلب العولمة، وغايتها الأسمى تجاوز هذا كله تحت مظلة السوق الواحدة.
انعكست الهجرات أيضاً. وأدى دعم الغربيين الدكتاتوريات في المنطقة العربية إلى تدمير ما تبقّى منها، ليُحدث حالة هجرةٍ اجتاحت أوروبا، شبّهها أحد الفلاسفة بـ "التيه العبراني" في الروايات التوراتية. لكنها أوجدت هجرةً مضادّة، أكثر عنفاً، من أوروبا هذه المرّة، ودول أخرى "مستقرة"، إلى المناطق العربية المدمرة، لا على شكل شركات إعمار رأسمالية عابرةٍ للقارات، وإنما على شكل مقاتلين يحملون السلاح، وينخرطون في الصراعات العسكرية الدائرة هنا، ثم يعودون إلى ديارهم، ناقلين تجاربهم المميتة.
منحت العولمة رؤوس الأموال، والقوى العاملة، والبضائع، حرية التنقل، وبشّرت بتجاوز الهويات الضيقة، على وقع طبول انفتاح السوق، و"القرية الواحدة" العالمية، لكنها منحت، وبأدواتها، كل ما يسبّب الشعور بالهويات الضيقة، ويعزّزها. فانتقال القوى العاملة بين قارات العالم جعل "الآخر" يسكن بالقرب مني، وأراه كل يوم، ما أدى، وبشكل تلقائي، إلى محاولة إبراز هويتي وترسيخها. صحيح أن ردة الفعل هذه ليست حتميةً، فهناك من ينجو. لكن، هناك من يتورّط أكثر.
لا يمكن أن تخطئ رؤية هذه الظاهرة "ترسيخ الهوية المحلية، بسبب الشعور بتهديد الآخر" في دول الخليج التي تعاني من خللٍ ديموغرافي، حيث يصبح كل ما هو رمزي مثيراً للجدل، خشية من ضياع تقاليد، يُنظر إليها باعتبارها مهدّدة من طوفان بشري، يتحدث بمئات الألسن، في دول يشكل المواطنون فيها "أقليةً" بالمعنى الحرفي للكلمة، وسط أغلبيةٍ "عاملةٍ" مهمشة ومعزولة، وعابرة، ولا يبدو أن هناك محاولات لفهمها.
نتائج التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، في بريطانيا، هزت قناعاتٍ كثيرة بشأن التكتلات الكبرى، وحرية السوق. فالعالم، والذي بدا في لحظةٍ ما، كأنه يتجه إلى تعزيز التكتلات الكبرى، مجموعة بريكس، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة شنغهاي، والاتحاد الأوراسي ...إلخ أوضح أن الردة ممكنة أيضاً، وبشكلٍ صادم، ومن قوة عظمى (ولو اسمياً كما تظهر سجلات الأمم المتحدة).
لكن بريطانيا أيضا، ومن خلال التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أعطت انطباعاً بأن الشباب أكثر قناعةً من غيرهم بالتكتلات الكبرى، والوحدة الأوروبية تحديداً. إذ أظهر انقسام المصوّتين، بشكل ملحوظ، بين شبابٍ وكبار سن، أن العمر لعب دوراً في الانقسام بين رؤيتين لبريطانيا وأوروبا، والعمر هنا يترجم لمعطى اقتصادي، وسياسي، وثقافي، لا مجرد اختلاف بين شبابٍ وشيوخ.
ربما يحمل هذا الانقسام بذوراً لصناعة مستقبلٍ مختلف، لصناعة عولمةٍ أكثر عدلاً، لكن الأمر برمته يعتمد على الخطوات القادمة لدول الاتحاد الأوروبي. هل ستقاتل لبقاء الاتحاد، وازدهاره، وتجاوز الأخطاء (الاقتصادية تحديداً) التي أدّت إلى خروج بريطانيا؟ أم أن العقد سينفكّ في النهاية؟ وربما تتفكّك "المملكة المتحدة" نفسها؟