يصح القول عن هذا العالم، الذي لا نزال تحت سطوته، إنه عالم روائيٌّ ثريّ ومتدّفق وخيالي لمن يريد كتابة سيرة التغريبة العربية من ألفها إلى يائها. ذلك أن هذه "السيَر" تشمل حياة الأفراد وتقاطع في ما بينهم كمجموع إنساني ذي مشتركات كبيرة.
وفق ذلك، تشمل هذه التغريبة الفنون والحياة الثقافية والمدنية والاقتصادية، بمقدار ما تشمل الحياة السياسية داخل الأحزاب والتنظيمات، ناهيك عن أن هذه السطوة التي من عمر الاستعمار هي التي قامت عليها الدولة العربية الحديثة.
كان الروائي الأردني غالب هلسا من الذين التفتوا إلى سطوة المخابرات في الحياة العربية، في روايته "الروائيون"، التي كُتبت في مصر وعن مخابراتها. غير أن الذي يهمنا في هذا السياق ليست رواية هلسا بالتحديد، بل تطور تلك السطوة على صناعة الحياة السياسة والثقافية والاقتصادية في العالم العربي، إلى حد أنه يصح أن نؤرخ لعصرنا العربي منذ ما يزيد على نصف قرن بأنه عصر المخابرات.
لم تكتف المخابرات في العالم العربي بالتدخل بالحياة العامة، وقد تعدى دورها حفظ الأمن القومي، إلى رسم السياسات، لتكون هي من يحكم لا مؤسسات الدولة الحديثة. ولعلّ الدكتاتوريات التي سقطت هنا وهناك، لا يمكن أن نعتبر أنها انتهت إذا لم يُستأصل معها سرطان الأمن القمعي، الذي يتحمل مسؤولية الخراب والفشل الذي صاحب بناء الدولة الوطنية بعد مرحلة الاستعمار، وعمل على تهميش دورها الوظيفي بالاستحواذ على مؤسساتها، بالإضافة إلى سحق شخصيات أجيال عربية كاملة، وتحويلها إلى مجرد أشباح وأرقام.
أما علاقة الشأن الثقافي في كل ذلك، فببساطة؛ لأن الحرية شأن ثقافي قبل أن تكون شأناً سياسياً، ناهيك عن أن الدور الذي لعبته المخابرات والعلاقات المتشعبة التي بناها الجهاز الأمني العربي طوال العقود الماضية، مع رأس المال الاجتماعي والاقتصادي داخل النظم العربية، استطاع إلى حد ما الحفاظ على مصالحه ومزاياه القائمة بحفاظه على نمطية نظم الحكم قبل الثورة وبعدها، أي أن الثورة حتى اللحظة (في مصر بشكل أوضح من غيره)، في المحصلة كانت تكسيراً لزجاج المبنى، ولم تكن هدماً لأقبية المخابرات التي ما زالت تواصل حكمها ونسج تحالفاتها وترميم النظام القديم.
في نهاية روايته "الروائيون" اقترح غالب هلسا - على لسان ضابط المخابرات المصري - على بطل روايته اليساري الانتحار. هكذا دخل ضابط المخابرات إلى المقهى وجلس إلى الطاولة التي عليها البطل اليساري وناوله حبوباً من أجل الانتحار، لكن أحداً لم ينتحر، وما حدث أن المخابرات العربية منذ تلك اللحظة وحتى الآن، ما زالت تحاول إقناع مجتمعات برمتها على الانتحار.