من نهاية سبعينيات القرن الماضي إلى منتصف تسعينياته، طفا جدال حاد بين المثقفين كان محوره الإسلام. جدال تبلور في معارك ما لبثت أن تضخّمت حين التقت عناصر من الصراع بمصالح دولية وخصوصاً بسياسات الأنظمة العربية (مصر، تونس، الجزائر وسورية كنماذج).
في هذا المناخ، ظهرت أفكار نصر حامد أبو زيد (1943 - 2010). متسلحاً بخلفيات موسّعة حول الحضارة الإسلامية مستمدة من تكوينه الأكاديمي، وبنظرة شاملة للسياق التاريخي العالمي، ثم مستكملاً عدّته المعرفية عبر التمكن من أدوات التأويلية التي ظهرت في أوروبا، اقتحم أبو زيد مغامرة التفكير الحر في النص الديني وموقعه من حاضرنا. وقال بوضوح إنه ينبغي التحرّر من هيمنة النصوص الدينية بتأويلاتها التراثية في سبيل إيجاد قراءات أكثر راهنية.
في منتصف سنة 1992، تقدّم أبو زيد بطلب ترقية في الجامعة المصرية، طارحاً عملين هما "الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية" و"نقد الخطاب الديني" لنيل درجة أستاذ جامعي. سيجد المفكر نفسه بعد أيام متهماً بالكفر، بل إن التتبّع القضائي سيصل إلى حدود الحكم بتطليقه من زوجته.
ما وقع للمفكر المصري كان حادثة فارقة في الفكر العربي المعاصر. لم يكن أول مفكر يُتهم بالكفر أو الردة أو المس بالمقدسات، فقد طالت نفس التهمة طه حسين وعلي عبد الرازق وفرج فودة وسيد محمود القمني وآخرين. لكن أبو زيد يمثل حالة خاصة من التوظيف والاستثمار.
وكأن عناصر عدّة في الجو العام وقفت لتشكل ديكور "المسرحية".
في تلك الفترة، كانت النظام المصري في أوج صراعه مع الحركات الإسلامية، وإذا لم يقع الإسلاميون في خطأ ينفّر المجتمع من أطروحاتهم فلا بد من اصطناعه. وفي الحقيقة، لم تكن أقلام من الصحافة المصرية أو من اليساريين تتورّع منذ السبعينيات عن المسّ بالمقدسات في لعبة جسّ نبض مطوّلة خاضتها السلطة مع الإسلاميين، لذا تبدو التسعينيات موعداً متأخراً للصدام.
ومع أبو زيد أخذت القضية أبعادها القصوى (التكفير)، بل أخذت أبعاداً استعراضية وشاذة (تطليقه من زوجته). ومن جهة أخرى، كانت قضيته فرصة لاختراق الحياة الأكاديمية باسم حمايتها من الإسلاميين ومن ثم اختراقها وجعلها صدى للتوجه الذي تقوم عليه السلطة كوكيلة للنظام العالمي. لقد أخضعت نفس العصا، وفي نفس الضربة، شكلين من أشكال المقاومة والمعارضة التي كانت السلطة تبحث عن طرق لإسكاتها.
ما فعلته الدولة المصرية نموذج لسلوك العقل التسلطي أينما كان. فهذا العقل التسلطي ينزع دائماً لإنتاج قيود مثل التكفير باسم الإسلام أو الدوغمائية العلمانية التي غزت الجامعة. في منجز أبو زيد نجد تطرّقاً لهذا العقل التسلطي وتلاعبه بالمصطلحات والقيم.
تخضع الشعوب العربية لتسلط عقلين: عقل الأنظمة العربية وعقل الغرب الاستعماري. ولكي نستدل على ممارسات الأول سنستضيء بما قاله أبو زيد عن العقل الثاني. لقد تحدّث المفكر المصري في مقدمة كتابه "هكذا تكلم ابن عربي" عن حركة المدّ الامبريالي كحامل إيديولوجي لـ "التنوير". فقد تحوّل هذا الأخير من حركة فكرية حرة إلى أداة استعباد. يفترض هذا العقل، بحسب أبو زيد، أن الآخر تهديد لسلطته ليبدأ في التوظيف السياسي الاستعماري لهذه الثنائية مصنفاً البشر إلى متحضّرين وهمج.
حين هبط هذا العقل الغربي، بخلفياته هذه، فوق أرض التاريخ العربي وسياقاته بدأ يرسّخ هذا التقسيم في عقول الشعوب المستعمرة والتي ستظهر في خلافات الاستقلال ثم في فترات تأسيس هذه الدول العربية الحديثة. وفي لحظة ما، كما تحوّل "التنوير" إلى إيديولوجيا استعمارية، جرى استثمار النص الديني وتسليمه إلى "الجهل والزيف والخرافة"، بعبارات أبو زيد في عنوان فرعي لكتاب "التفكير في زمن التكفير"، لصناعة إيديولوجيا تسلطية، تمنع التفكير من خارج ما تحدده السلطة.
وفي معرض تتبّعه لتواصُل استخدام الغرب للإيديولوجيا التنويرية بعد استقلال الدول العربية والإسلامية، يرى أن الشعوب المستعمرة لن تلبث أن تدخل في ثورات ضد حكامهما لتناقضهما الواضح. عندها، يلتفت المسلمون إلى ما لديهم وما يميزهم عن الغرب؛ الدين الإسلامي أي رأسمالهم الرمزي كما يقول أبو زيد. هنا، يعتبر الثورة الإيرانية التعبير الأهم عن هذه النزعة، وكان لتحقق الدولة الإسلامية صدى في البلاد العربية فأخذ التفكير (السياسي) الإسلامي أبعاداً جديدة وحقق سرعة أكبر في التطوّر.
نحن الآن في نهاية السبعينيات، المد الإسلامي يتقدّم في كل بلاد الشرق، بما فيها تركيا الأكثر تغريباً بخياراتها العلمانية الحادة منذ العشرينيات. هذا المد تجسّد في داخل كل مجتمع على هيئة حرب مواقع (مؤسسات غير حكومية، مؤلفات، صحافة، الشارع...) ما لبثت السلطات أن تحسّست تهديده، وهي التي أصبحت تعلم أن الاستقواء بالغرب لا يزيد الشعوب إلا عناداً والتجربة الإيرانية قريبة من الأذهان. هكذا، لم يبق سوى البحث عن تخريب الخيار الإسلامي من الداخل، ليبدأ التكفير يترعرع في جُحره.
ولعل متابع حركية الأفكار في العالم العربي في عقد الثمانينيات، يلاحظ نضجاً في ما يطرحه المفكرون العرب بجميع اتجاهاتهم. كان أبو زيد أحد علامات صعود الفكر العقلاني وتطبيقاته على الموروث الديني، وإلى جانب ذلك أخذ الخيار الإسلامي ينضج خصوصاً على مستوى التقبّل الاجتماعي.
لم يكن هذا النضج ليُرضي من يريد للمجتمعات العربية أن تظل أسيرة الخطى البطيئة المرسومة على مقاس مصالح الحكومات والدول الكبرى. كان التكفير مضاداً من ضمن قائمة مضادات أخرى لوقف هذا النضج. وها إن بروز درجة نضج أعلى مع الثورات والانتفاضات العربية الأخيرة (2011)، جعلت التكفير يظهر من جديد وبمقادير أكبر.
لم يكن نصر حامد أبو زيد (أو فرج فودة أو شكري بلعيد في تونس مؤخراً) سوى ضحية جاهزة، كما أن التكفير أداة جريمة جاهزة. وبعد العملية، عادت المرابيح للسلطة؛ استنكر المجتمع التكفير من جهة (حصل في الأثناء تعميم على كامل التيار الإسلامي)، ومن أخرى جرى إظهار المآلات التراجيدية لممارسة التفكير الحر.
سيكون تكفير أبو زيد سبباً في إيقاف حركة البحث التأويلي في التراث. أبو زيد نفسه تحوّلت وجهة تجربته، وهو ما بيّنه الباحث الجزائري محمد حيرش بغداد في دراسة بعنوان "القراءة النقدية للتراث وعائق التكفير: نصر حامد أبو زيد نموذجاً". فمن المستفيد من إيقاف ديناميكية عقل حر؟
هذا شيء مما حصل لنا بالأمس، شيء تمتد خيوطه في ما يحدث اليوم. بنفس المنهجية تتحرك السلطة، رغم الشكليات الجديدة التي تضعها على وجهها. في الأثناء، تتطور آليات التكفير وتتناسل فوق الشبكات الإعلامية حتى تتحوّل إلى حالة استسهال عبثي للقتل، ولا عاصم إلا متابعة التفكير.