نزيه مؤيد العظم: رحالة شامي في رحاب صنعاء

22 يونيو 2019
صنعاء
+ الخط -

كانت اليمن على الدوام منطقة مجهولة من الرحالة الغربيين والعرب لأسباب عدة؛ منها الطبيعة الجغرافية الصعبة، وبعدها عن أماكن الحج المسيحية والإسلامية، ولذلك تعد أي رحلة إلى اليمن وثيقة مهمة تستحق العناية والدرس والتحليل، خصوصاً في المرحلة الإمامية التي يعتريها الكثير من الغموض.

من هذه الرحلات النادرة رحلة الوجيه والسياسي الوطني السوري نزيه مؤيد العظم في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، فنزيه المؤيد العظم لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ودونها في ما يتعلق باليمن، ولذلك تعد رحلته هذه أهم مرجع في تلك الفترة عن اليمن أو كما كانت تسمى في المصادر الكلاسيكية "العربية السعيدة"، لشمولها جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

بدأت علاقة نزيه المؤيد العظم باليمن في عام 1927 عندما زارها برفقة المستر شارلس كراين الثري الأميركي عضو اللجنة المعروفة باسم لجنة كينغ كرين، والتي سبق لها أن أتت إلى بلاد الشام في عام 1919 موفدة من الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس لدرس حالة البلاد العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية، ولتقف على رغبات أهلها في تقرير مصيرهم.

وقد نشأت الصداقة بين الرجلين في ذلك الوقت. وبعد أن لجأ العظم إلى مصر بعد الثورة السورية الكبرى في عام 1925 التقى الرجلان في مصر، فطلب المستر كراين من صديقه نزيه العظم مرافقته في رحلة إلى الحجاز واليمن في عام 1927، ثم قام العظم وحده بعدة رحلات إلى اليمن كان آخرها رحلته التي دونها في كتاب بعنوان "رحلة إلى العربية السعيدة" وصدر في دمشق عام 1936.

وتعد هذه الرحلة شهادة مهمة عن اليمن في ذلك الوقت، بما في ذلك حياة اليهود اليمنيين في صنعاء الذين كانوا يعيشون حياة عادية مع أشقائهم المسلمين اليمنيين، قبل قيام دولة الاحتلال في فلسطين المحتلة عام 1948 وما خلقته من نكبات وأوضاع جديدة دفع ثمنها الإنسان العربي وما زال يدفع.


آفة القات
في وصفه لمدينة صنعاء يقول نزيه المؤيد العظم الذي كان يصحبه جندي من جنود الإمام: "مررت بسوق البقر وسوق الحطب وسوق البز أي الأقمشة وسوق القمح وسوق الزبيب والجوز وغيرها من الأسواق الكثيرة وكانت معظمها مقفلة ولم أشاهد فيها إلا بعض الناس، فحرت في أمرها وسألت رفيقي الجندي هل عندكم اليوم عيد؟ أم عندكم إضراب عام؟ فقال: لا يوجد عندنا عيد. قلت إذاً إضراب؟ فلم يفهم معنى الإضراب وعند ما أفهمته معنى الإضراب ضحك حتى كاد يغشى عليه من الضحك ويستلقي على قفاه وقال: نحن لسنا بحاجة إلى هذه الأمور ولو احتجنا إليها لا نستعملها، بل نستعمل هذا (البندق) وأشار إلى البندقية التي كان يحملها على كتفه".

ويتابع: "سألته ثانية إذاً لماذا أغلق الناس حوانيتهم ومخازنهم! فأجاب: سامحك الله الوقت وقت الظهر والناس يأكلون القات.

فقلت حسناً وعدت أدراجي نحو الدار وأنا أفكر بالقات وأكله وكنت أصادف بعض المارة في الطريق فأرى أفواههم وأحناكهم منهمكة في مضغ القات وأيديهم ملأى بغصونه فقلت لرفيقي الجندي ما شاء الله الناس (يخزنون) القات حتى في الطرقات، فأجاب، نعم يا سيدي إنهم يخزنون القات في كل مكان والقات ناه (أي جيد) خذ وكل وأخرج من بين ثيابه رزمة من القات ابتاعها في الطريق وقدم لي بعض الأغصان. فشكرته وقلت بلطف لا أريد. فقال الله يسامحك الغني والفقير يأكل القات عندنا وينفق الفقراء أحياناً ريالاً أو ريالين ثمن القات، فقلت حسناً هنأكم الله بالقات".

وأصيب العظم بالعجب من أمر ذلك الفقير الذي ينفق ريالاً ثمن قاته كل يوم في حين يعيش رب العائلة مع أهل بيته في اليمن ولا ينفق في يومه نصف ريال لأن ثمن المأكولات والحاجيات رخيص جداً.

وكما يقول: "البيض مثلاً العشرون منه بفرنك والدجاج الواحدة بفرنك ورطل اللحم بأربعة إلى خمسة فرنكات وعلى ذلك فقس! وأما القات فغال جداً بالنسبة إلى غيره من الحاجيات أولاً لشدة الطلب عليه وثانياً لأن الحكومة تعتبره من الكماليات وتتقاضى عليه رسوماً باهظة".

ويعلق مستهجناً: "من الغريب أن إخواننا اليمانيين بمن فيهم المتعلمون والراقون، ما خلا نفر قليل منهم يسلمون بضرر القات ويعلمون حق العلم الخسائر المادية والمعنوية التي تعود عليهم من استعماله ولكنهم يأنفون ويغضبون من سماع كلمة نقد فيه ويدافعون عنه بكل قواهم".

من غير المعروف متى بدأ اليمنيون استعمال القات، ولكن من المرجح أنه بدأ في القرن السابع عشر إذ ذكر الرحالة كارستن نيبور في العام 1762 حين زار اليمن ووضع كتابه عن العربية السعيدة، أن عادة المضغ كانت منتشرة في المناطق الشمالية لليمن.


البرد في صنعاء
ويتابع العظم واصفاً برد صنعاء: "وصلت إلى الدار قبل الغروب وقد أخذ الهواء يبرد وابتدأت قائمة الحرارة (ترمو متر) تهبط هبوطاً سريعاً فشعرت بالبرد يتسرب إلى جسمي فلبست معطفي وجلست أطالع في بعض الكتب قصد التسلية وانتظاراً لوقت العشاء. وبعد العشاء شعرت بالبرد أكثر فصعدت لغرفة النوم واندسست في سريري هرباً من البرد إذ لا يوجد في منازل صنعاء وسائط للتدفئة ولم أشاهد (دفاية) واحدة وبعد التجربة العملية وجدت أن الفراش أفضل مكان للتدفئة ولاحظت أن برد اليمن كبرد بلودان لا يضر بالجسم كما يضر به برد مصر ودمشق وذلك لأن هواء اليمن كهواء بلودان ناشف جداً بخلاف هواء مصر والشام المشبع بالرطوبة".

ويضيف: "قضيت ليلتي على أحسن حال ونمت نوماً هادئاً استيقظت خلاله مرة أو مرتين على صياح الحرس في مخافر السور وهم ينادون بعضهم بعضاً بأصوات غريبة عذبة وأنغام أعذب تجتذب الأسماع، وقبيل الفجر صحوت على صوت المؤذنين الذي كان يرن صداه في هدوء ليل صنعاء فيزيده حرمة ورهبة ويشعر بفرار جيوش الظلام ويبشر بقرب طلوع جحافل النهار باسم الواحد القهار. وقد لاحظت أن الأذان في صنعاء تختلف نغمته عن الأذان في مصر والشام وخصوصاً أذان (التذكير) المشهور في يومي الجمعة والاثنين فهو عندهم مختصر جداً ولا يرتلونه ترتيلاً كما يرتلونه في الشام ومصر".


تجار الآثار
بعد ذلك يتحدث العظم عن زيارة تجار التحف والآثار له في محل إقامته ويسميهم اليمنيون الدلالون، ويقول له أحد الجنود هذه عادتهم في صنعاء متى علموا بوصول غرباء فإنهم يجلبون لهم ما خف حمله من العاديات (الأنتيكات) ليعرضوها عليهم بقصد البيع والشراء.

ويقول العظم إن بضائعهم كانت تتكون من المفارش والأدوات النحاسية والدراهم الفضية والذهبية قديمة والفصوص اليمانية وهي أحجار غريبة الأشكال والألوان بعضها قديم وبعضها جديد يستعملونها في صياغة الخواتم، وأحجار حميرية منها ما هو منحوت بشكل أشخاص وتماثيل ومنها ما هو على شكل الحيوانات ومنها ما هو مكتوب كتابة غريبة، قيل إنها حميرية ومسمارية.

ويضيف: "فتأملنا في هذه الأشياء الغريبة ولم نشتر سوى بعض الفصوص لعدم معرفتنا بالأشياء الأخرى، وسألنا الدلالين عن السجاد القديم فقالوا لقد أخذه التجار الترك بأثمان بخسة ورووا لنا أن تاجراً ابتاع سجادة عجمية قديمة من آل السنيدار بمبلغ مائة جنيه إنكليزي وباعها بمصر بألف وخمس مائة جنيه مصري"، ومما قالوه إن الجامع الكبير كان مفروشاً بالسجاد القديم فابتاعه الترك وفرشوا عوضاً عنه سجاداً جديداً".

وأما عن باقي اللقى التي عرضت عليه للبيع، فقال إن "النحاس فبعضه كان جميلاً جداً ومكتوباً عليه كتابة عربية وفيه رسوم سمك وأسماء بعض الملوك والأئمة المعاصرين له وتاريخ حكمهم وجله مصنوع من النحاس الأصفر وبعضه من النحاس الأحمر". ويستدرك قائلاً إن الدلالين "في صنعاء كغيرهم من الدلالين والباعة في أقطار الشرق يطلبون في الحاجة عشرة دنانير فيبيعونها بدينار واحد وهم كثيرون جداً لا يأتي غريب أو أجنبي إلى صنعاء إلا وينهالون عليه من كل فج عميق ويجلبون له كل شيء تصل إليه أيديهم من طبول وزمور وبنادق وسيوف وجنبيات ومسدسات وساعات ونقود وزجاج فارغ الخ".

ولكنه يلفت النظر إلى أن الكثير من القطع المعروضة مزيفة، وأن من يقوم بعملية التزييف رهط من الصناع اليهود، غير أنه يعود ليؤكد أن معظم النحاس قديم جداً وخاصة النوع الذي يقولون له غساني.


قاع اليهود
ويخرج العظم بصحبة أحد الدلالين اليهود لزيارة قاع اليهود، وهو مكان سكناهم، وقال إنه لم يصطحب معه أحداً من الجنود لأن اليهود لا يميلون إلى الجنود ولا يحبونهم ولا يتكلمون أمامهم غير الكلام المباح، بحسب قوله، أما إذا اختلوا بالغريب فإنهم يتكلمون معه بحرية تامة.

وطاف العظم بالقاع من أوله إلى آخره ودخل منازل كثيرة من منازله... وقال إن منازل اليهود من داخلها نظيفة وأنيقة للغاية رغم صغر حجمها وقذارتها من الخارج. وقال إنه "يوجد في القاع عدة أسواق فيها جميع أنواع البضائع والخردوات من أقمشة وأدوات منزلية إلى غير ذلك من لوازم هذه الحياة وفيها فرن (أتون) لصنع الأجر الأحمر وآخر لصناعة الأدوات الخزفية والفخارية كالأباريق والشربيات والتنانير إلى غير ذلك من المصنوعات المشوية".


حوار مع حاخام صنعاء
والتقى العظم في القاع مع عدة شخصيات من كبار اليهود وعيونهم، وسألهم أسئلة متعددة عن أصل اليهود اليمانيين وعن أحوالهم وأشغالهم ونقل الحديث الذي جرى بينه وبين حاخامهم الأكبر المدعو يحيى إسحاق في داره:

(س) كم عدد اليهود في صنعاء وكم هو في جميع بلاد اليمن؟
(ج) يوجد في صنعاء نحو عشرة آلاف يهودي من الذكور ومثلهم تقريباً من الإناث ويوجد كثير من اليهود في جميع أطراف اليمن ولا أعلم عددهم بالضبط لأنهم يتنقلون من مكان إلى مكان ضاربين بأرض اليمن الواسعة فلا يستقرون إلا حيث يجدون عملاً.
(س) كيف كانت معاملة الترك لليهود أيام الدولة العثمانية؟ وكيف معاملة اليمانيين لهم الآن؟
(ج) لم تكن معاملة الترك لنا حسنة كما أن معاملة اليمانيين ليست حسنة ولكنها على كل الأحوال أفضل من معاملة الترك والله يحفظ الإمام أنه يدافع عنا وينصفنا ويمنع جميع التعديات علينا ويجازي كل من يتجرأ فيتعدى علينا جزاء صارماً.
(س) هل لكم علاقات بالعالم الخارجي وهل تأخذون أخبار أخوانكم اليهود في هذه الدنيا؟
(ج) نعم يوجد لنا علاقات ومخابرات دينية مع القدس ويافا والقاهرة والإسكندرية ونأخذ دوماً جرائد من القدس ويوجد يهود يمانيون بكثرة هنالك ولي ولد في يافا والمكاتبات تجري بيننا وبين أصدقائنا في جميع البلاد بصورة منتظمة.
(س) هل يوجد بينكم يهود صهيونيون ويهود غرباء عن اليمن وهل تعطفون على الحركة الصهيونية وتؤيدونها أم لا؟
(ج) لا يوجد عندنا يهود غرباء ولا يهود صهيونيون إنما منذ عهد بعيد أتى إلى اليمن بعض التجار اليهود الغرباء وما لبثوا أن قفلوا راجعين من حيث أتوا وأما الصهيونية فليس لنا أقل علاقة بها ولا ننظر بارتياح إلى بعض مبادئها وكانت ولا تزال جريدة من جرائد الصهيونيين ترسل إلينا من القدس هدية من دون أن نطلبها.
(س) هل يوجد عندكم مدارس وكنائس وهل يعارضكم أحد في ممارسة طقوسكم الدينية؟
(ج) عندنا 15 مدرسة و19 كنيساً في صنعاء ونمارس طقوسنا الدينية كما نشتهي ونطبق شريعتنا اليهودية كما نرغب فلا يعترضنا معترض ولا ينتقدنا منتقد، وقلما يراجع أحد منا الحكومة المحلية بشأن من الشؤون ونعلم أولادنا في مدارسنا العبراني ولا نعلمهم العربي وجميعنا نتكلم العبراني في دورنا وبين ذوينا ولا أحد من المسلمين يتدخل في أمر مدارسنا أو أي شأن آخر من شؤوننا الدنيوية والدينية ما دمنا محافظين على الأمن والسكينة.
(س) هل لكم ارتباط خاص مع الحاخامين بالخارج من الوجهة الدينية؟
(ج) ليس لنا ارتباط بأحد من الحاخاميين بصورة رسمية ولكن كثيراً ما تأتينا أسئلة من حاخام مصر أو القدس مثلاً عن موسى من الناس اليماني الأصل وهل هو متزوج أو أعزب؟ وإذا كان متزوجاً فكم ولد عنده؟ وهل له أملاك أو تجارة في اليمن أم لا؟ فنجيب على هذه الأسئلة بحسب الظروف، وبديهي أن هذه الأسئلة تتعلق بالزواج والطلاق وأعمال العزوبة الخاصة التي يجب على كل رئيس ديني أن يعرفها.
(س) هل تعلمون حقيقة السر في عزلة حي اليهود على أحياء المسلمين؟
(ج) لا يوجد سبب جوهري ومن المعلوم أن اليهود في اليمن كانوا تحت رحمة أئمة اليمن وولاة الترك وبحسب الظاهر أن أحد الأئمة أو الولاة غضب على اليهود بسبب من الأسباب فأمر بلزوم ابتعادهم عن المسلمين وعزلتهم عنهم فصارت عادة من ذلك الحين وأنا لا أشك أنهم كانوا قديماً أي قبل 200 سنة يقطنون بعضهم مع بعض في أحياء واحدة ودليلي على ذلك أنه توجد في بعض أطراف اليمن على حدود عسير بلدان كثيرة يقطن فيها المسلمون واليهود أحياء قائمة جنباً إلى جنب ومن الغريب أن المسلمين هنالك يعيدون في أعياد اليهود كما أن اليهود يعيدون في أعياد المسلمين وكانوا في قديم الزمان أيضاً يتزوجون بعضهم من بعض.
(س) من المسموع في الشرق والغرب أن الترك كانوا يعطفون عليكم فهل هذا حقيقي؟
(ج) كلا إن حالنا مع الترك مثله مع الأئمة إذا صادف أن عطف علينا أحد الولاة أو أحد الأئمة يوماً من الأيام فلا شك أن يأتي يوم آخر يقوم به وال أو إمام فيسيء إلينا بقدر ما أحسن إلينا سلفه.
(س) أرى عندكم فوق الرفوف بعض الكتب المطبوعة فهل توجد عندكم مطابع؟
(ج) كلا لا توجد عندنا مطابع بل نحن نجلب كتبنا المطبوعة من القدس وأما الكتب الخطية فإننا ننسخها عن بعض الكتب القديمة التي لا تزال محفوظة عندنا وهي نادرة الوجود في غير خزائننا.


عائد من بروكلين
ويشير العظم إلى وجود رجل طاعن في السن زاد عمره على المائة عام في مجلس الحاخام يدعى يشوع إبراهيم عوض، وقال إنه زار أميركا منذ خمسين سنة. وعاش في مدينة نيويورك نفسها ثلاث سنوات اشتغل فيها عاملاً بسيطاً في أحد المعامل. وأنه تعلم الإنكليزية قليلاً ثم نسيها. وحين سأله لماذا عدت من أميركا؟ قال حب الوطن قتال والشوق إلى الأهل والخلان حملاني على مغادرة نيويورك وحياتها الرغيدة والعودة إلى صنعاء وحياتها الشاقة.

وفي تحليله لحواره مع الحاخام يقول نزيه المؤيد العظم: "إني أعتقد بأن الحاخام الأكبر كان صادقاً في جميع أقواله ولم يتصنع في أجوبته اللهم ما عدا تصريحاته عن الصهيونية فإني لاحظت عليه الارتباك عندما كنت أسأله بعض الأسئلة التي تتعلق بالصهيونية فقد علمت فيما بعد بأن للصهيونيين مخابرة طويلة عريضة مع صنعاء، ولهذه الجمعية صناديق للإعانة في كل دار من دور اليهود في معظم مدن اليمن. واليهودي الذي يريد أن يتصدق بشيء مهما يكن زهيداً يضعه في هذا الصندوق ورب الدار ليس مأذوناً بفتح هذا الصندوق بل يفتحه وكيل الجمعية كل شهر مرة ويخرج ما فيه فيجتمع لديه مبلغ وافر يرسله إلى صندوق الجمعية بالقدس ويدعون هذا الصندوق بصندوق الأمة".


دكاكين الصياغ
ويزور العظم دكاكين الصياغ فيجد أصحابها وعمالها جميعاً من اليهود وحين يدخل إحدى تلك الدكاكين يرى صاحبها جالساً في الصدر وحوله ثلاثة أو أربعة عمال كبار وصغار وإلى جانبه خزانة حديدية قديمة. وبعد أن يجلس يطلب من البائع بعض الأساور والخواتم والحلق من صنعه، ويقول إن البائع لم يفهم منه شيئاً، ويقول: "أخذنا نتكلم بالإشارة ولغة الخرسان وبينت له إنني أريد الحلي التي تلبسها النساء بالمعصم والأصابع والآذان فقال تعني بلاذك (أي أساور) ومداور (أي خواتم) فقلت نعم لا فض فوك هذا الذي أعنيه. فقال حسناً فهمت طلبك ولكن أتريد من الدقة (أي النقشة) التركية الحديثة أم من الدقة القديمة الخاصة بالقبائل! فقلت أرني جميع ما عندك، ففتح درجاً بالصندوق الحديدي وأخرج منه كيساً مملوءاً أشكالاً وأنواعاً مختلفة من المصاغات، والحق يقال إن بعضها جميل جداً وعليها نقوش لم أشاهد مثلها في الشام ومصر وجميعها مصنوعة من الفضة وبعضها مطلية بماء الذهب.

ويضيف قائلاً: "رأيت العمال إلى جانبي يصبون بعض الحلي صباً بقوالب خاصة ويشتغلون بعضها شغلاً باليد ويحفرونها أشكالاً غريبة، ورغم ضخامتها فإن عليها مسحة من الجمال قلما يراها الإنسان في المصاغات الحديثة في البلاد المتمدنة، فسألت عن أثمان بعضها فقال لي بالوزن.. فقلت زن لي هذه البلاذك وتلك المداور فوزنها وقال لي ثمنها كذا فقلت حسناً ونفحته الثمن وهو يزيد شيئاً يسيراً عن قيمة الفضة، وهذه الزيادة اليسيرة لا تساوي في الحقيقة أجرة العمل ولكن بارك الله في العربية السعيدة فكل شيء فيها جميل ولطيف ورخيص وما أخطأ الذين سموها سعيدة في هذه التسمية".

ويشير العظم إلى أن نساء اليمن يقتنين حلياً كثيرة ويفاخرن باقتنائها وعندهن حلي لمعظم أعضاء الجسد بما فيها الأذن وبين العينين والأذنين والساعدين والمعصم والأرجل إلخ... ولها أسماء خاصة تختلف كل الاختلاف عن أسمائها في بلاد الشام.

ويختم جولته في ذلك اليوم بجولة في حي بئر العزب حيث يرى في أوله من جهة قاع اليهود جامع حنظل. ويقول إن له مأذنة (منارة) جميلة مبنية من الحجر والآجر. ويضيف أنه مر في طريقه ببعض الحمامات وهي كثيرة في صنعاء، كما يقول، لافتاً إلى أنه لا توجد في المنازل حمامات خاصة.

ويقول: "ربما بلغ عدد الحمامات في صنعاء أكثر من العشرين وهي مبنية على الطراز القديم المعروف عندنا في الشام، ويقوم بإدارتها مدير (معلم) وبعض العمال ولهم طرق خاصة في التدليك والتفريك وتمسيد الأعضاء والعضلات".

المساهمون