أكثر من 50 ألف نازح في أيام قليلة غادروا منازلهم وقراهم في ريف حلب هرباً من الغارات الروسية وتقدم النظام. لم تسمح تركيا بدخولهم إلى أراضيها، وها هم يقيمون في ظروف إنسانية سيئة عند الحدود
في الخيمة التي تبلغ مساحتها نحو سبعين متراً مربعاً، يجلس أحمد على الأرض مع أشقائه الأربعة ووالدته وأكثر من عشرين عائلة نازحة أخرى من مختلف مناطق ريف حلب. نحو مائة شخص يقيمون في الخيمة المنصوبة على الجانب السوري من الحدود مع تركيا، قرب معبر باب السلامة، شمال حلب. تبدو الخيمة وكأنها بيت بلاستيكي للخضَر، أو مزرعة دجاج صيفية امتلأت بالبشر بدلاً من الدجاج. في هذه الظروف الكارثية يتعايش أحمد مع مرض الربو الذي يحاول أن يتناساه. لا تتوفر حمامات ولا مصادر تدفئة، ولا غيرها من مستلزمات الحياة الأساسية.
أكثر من خمسين ألفاً من سكان ريف حلب الذي يتعرض لهجوم قوات النظام السوري بمؤازرة جوية عنيفة من الطيران الروسي، فروا من قراهم وبلداتهم في الأيام الأخيرة باتجاه الحدود السورية - التركية. أغلقت الحدود في وجوههم، ليبيت معظمهم في العراء أو في خيام جماعية تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة البشرية.
يعيش هؤلاء من دون ماء أو كهرباء أو تدفئة في طقس تصل درجة الحرارة فيه ليلاً إلى ما دون الصفر. يقطن نحو خمسة عشر ألفاً من النازحين الجدد في مائتي خيمة جماعية كبيرة على الحدود. هؤلاء على سوء أوضاعهم محسودون من قبل من بقوا في العراء تحت أشجار الزيتون بين قرية أكدة والحدود التركية، أو من أولئك الذين اضطروا مع الهطول الغزير للأمطار، يوم السبت، إلى العودة لمسافة خمسة كيلومترات مشياً إلى مدينة أعزاز. هناك أقامت الهيئات الإغاثية عشرة مخيمات صغيرة عشوائية في الأيام الأربعة الماضية لاستقبال النازحين الذين يتدفقون باستمرار إلى المدينة.
يقول العامل الإغاثي في أعزاز محمود الخلف، لـ"العربي الجديد"، واصفاً كارثة النزوح غير المسبوقة التي ألمّت بمنطقة ريف حلب الشمالي: "خلال ثلاثة أيام فقط، وصل إلى المدينة ومعبر باب السلامة الحدودي خمسون ألفاً من النازحين، معظمهم من أبناء بلدات تل جبين ومعرستا الخان ورتيان وحيان ومسقان، بالإضافة إلى مئات من النازحين السابقين من حلب وحمص وريفها وأرياف حماه، ممّن كانوا يقيمون في هذه البلدات ونزحوا مع أهلها باتجاه الحدود التركية".
يتابع الخلف: "لم تكن الهيئات الإغاثية والإنسانية المحلية تتوقع وصول هذا السيل البشري، حتى أنّ النازحين أنفسهم مصدومون بأعدادهم الكبيرة. لقد جاؤوا إلى الحدود على أمل الدخول إلى تركيا، لكنّ الحدود المقفلة أجبرت أعداداً كبيرة منهم على العودة إلى أعزاز، فيما بقي الآخرون قرب الحدود على أمل فتحها. اليوم، يبيت نحو عشرين ألفاً من النازحين في عشرة مخيمات صغيرة أقامتها الهيئات المحلية على أطراف أعزاز، وفي مساجد المدينة وفنادقها، وفي بيوت أقاربهم ومعارفهم. لا يمكن لأحد أن يعرف بالضبط عدد النازحين الموجودين في أعزاز، فهم مبعثرون في كلّ مكان. لا يوجد مكان صالح أو غير صالح للسكن إلا وقد امتلأ بالنازحين، حتى مزارع الدجاج المهجورة والمباني غير المؤهلة".
بدأت موجة النزوح فعلياً إلى المناطق الحدودية القريبة من مدينة أعزاز في مطلع الأسبوع الماضي بعد نزوح نحو ألفين من أبناء المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ريف مدينة الباب الجنوبي، شمال شرق حلب. سيطرت قوات النظام على قراهم خلال الأسابيع الماضية، أو تعرضت القرى إلى قصف روسي عنيف تسبب بفرار أهلها منها على مراحل قبل وصولهم إلى أعزاز. ومع منتصف الأسبوع الماضي سمحت السلطات التركية بإدخال أربعة باصات ممتلئة بالنازحين إلى أراضيها عبر معبر باب السلامة. يذكر ناشطون معارضون من أبناء المنطقة، لـ"العربي الجديد"، أنّ هذه الباصات كان يفترض بها أن تحمل التركمان النازحين إلى الأراضي التركية، إلا أنها حملت نحو ألف نازح معظمهم من الأطفال، ولا يشكل التركمان أكثر من ربع عددهم.
مع الهجوم المفاجئ والكبير لقوات النظام السوري وحلفائه المترافق مع أكثر من 320 غارة جوية روسية يومي الأربعاء والخميس الماضيين على ريف حلب الشمالي، فرّ سكان بلدات وقرى بأكملها شمالاً باتجاه الحدود التركية، لتتفجر أزمة النازحين على الحدود، وتصدم عمال الإغاثة في المنطقة والسلطات التركية. الأخيرة لم تسمح بفتح الأبواب للنازحين. لكنّ منظمة الإغاثة التركية "إي ها ها" أعلنت، يوم الجمعة، أنها قدمت مائتي خيمة بلاستيكية كبيرة للنازحين، من أجل نصبها على الطرف السوري من الحدود. وتكفّل الهلال الأحمر التركي بإرسال وجبات طعام ومواد غذائية وطبية إلى النازحين، بعد إدخال العشرات من المرضى والمصابين إلى الأراضي التركية لتلقي العلاج في مستشفى كلس القريب من الحدود.
يشعر النازحون المتكوّمون هناك أنهم باتوا اليوم ضحية مباشرة لسياسات دولية وإقليمية متضاربة. يعبّر بعض من تحدثوا إلى "العربي الجديد" عن سخطهم من الظروف الكارثية التي يعيشونها. ويعتبرون أنّ حالة الخذلان التي يشعرون بها بعد تهجيرهم من بيوتهم كانت بسبب تضارب السياسات الدولية حول الملف السوري.
من هؤلاء النازحين عبد المعين بغاجاتي. هو مدرّس جغرافيا من حمص، وصل إلى الحدود التركية أخيراً بعد رحلة نزوح وتنقّل مستمرة منذ ثلاث سنوات بين مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال. يعبّر لـ"العربي الجديد"، عن استيائه من ازدياد معاناة أسرته التي انفصل عنها بحكم وضعه في خيمة جماعية للرجال البالغين، وبقائها في خيمة جماعية أخرى للنساء والأطفال: "الروس يريدون القضاء على المعارضة وحاضنتها الشعبية، وهم يساعدون النظام السوري بطائراتهم على تهجير المعارضين وعائلاتهم. والأتراك لا يريدون أن يتحمّلوا وحدهم عبء استقبال النازحين ولا يريدون أن تتحوّل تركيا إلى إسفنجة تمتص آثار التدخل الروسي - الإيراني في سورية. والأوروبيون يضغطون على الأتراك لمنعنا من دخول تركيا، وبالتالي قطع احتمال توجهنا إلى أوروبا. لا أحد في الواقع يكترث لمعاناتنا. لقد حوّل الجميع سورية إلى ساحة لتصفية النزاعات السياسية، ونحن فقط من يدفع الثمن".
يتابع: "لم تصلنا حتى الآن قطعة خبز أو علبة حليب من وكالات الأمم المتحدة، ولم نسمع عن أيّ وكالة أصدرت بياناً بخصوص وضعنا". يسخر: "يبدو أنّ الطائرات الروسية التي أخافتنا وأجبرتنا على النزوح أخافت موظفي الأمم المتحدة القابعين في مكاتبهم في نيويورك وجنيف أيضاً".
يهدد التقدم البري للنظام والقصف الجوي الروسي مئات الآلاف من السكان في حلب وريفها. فقد أصبحت هذه القوات وسط مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال حلب. كما فصلت ريف حلب الشمالي عن ضواحي حلب الشمالية ومناطق مدينة حلب التي تسيطر عليها المعارضة. ولا يبدو واضحاً حتى الآن الخيار الذي ستتبناه قوات النظام في التقدم نحو حصار مناطق سيطرة المعارضة في حلب أو مهاجمة ريف حلب الشمالي.
في مناطق سيطرة المعارضة في مدينة حلب التي تشكل نحو 60 في المائة من المدينة، يقطن 64 ألفاً و500 عائلة، بحسب إحصاء مجلس مدينة حلب المعارض، الذي يقدّر عدد سكان مناطق سيطرة المعارضة في المدينة بنحو 400 ألف نسمة، هم في الواقع أقل من ربع عدد سكان هذه المناطق قبل خمس سنوات. هؤلاء جميعاً محتارون اليوم، فخياراتهم باتت محدودة بين انتظار القصف الروسي المتكرر والمستمر على أحيائهم السكنية، أو النزوح باتجاه الحدود التركية، حيث تنتظرهم ظروف كارثية ومستقبل مجهول.
حالة مشابهة يعيشها من بقي في بيته من سكان مدن وبلدات وقرى ريف حلب الشمالي التي ما زالت قوات المعارضة تسيطر عليها، كمدينتي تل رفعت وأعزاز وبلدات كفرنايا ومنغ وغيرها، فهؤلاء أيضاً ليس أمامهم إلا انتظار القصف الروسي، أو التوجه إلى العراء على الحدود.
لا توجد تقديرات دقيقة لأعداد سكان مناطق سيطرة المعارضة في ريف حلب الشمالي. لكنّ المدن والبلدات والقرى في هذه المنطقة ممتلئة عن آخرها بالنازحين إليها، ومن رفضوا النزوح حتى اليوم بالرغم من كلّ ما مرّ على مناطقهم في السنوات الخمس الماضية. إلا أنّ القصف الروسي المستمر وتقدم قوات النظام، في حال حصل، سيجبرهم على ترك بلداتهم وقراهم التي تمسكوا بها طوال السنوات الماضية.
اقرأ أيضاً: الزحف وتسلّق المنحدرات.. طريق السوريين الوحيد إلى تركيا