نحو تحديث العقليات

19 سبتمبر 2015
+ الخط -
لا ينبغي أن يكون حظنا من تتابع السنين، وتقدّم العصور، زيادة مستوى الاستهلاك الحضاري العيني للأشياء المستوردة، من دون أن يرافقها تطور في مناهج التفكير وطرق التعامل مع الأحداث والتحديات، فالذي يقف على الحال، اليوم، وما كان عليه قبل عقدين يكتشف أن التغيير في معظمه لم يطل سوى نوعية المظاهر الخارجية للإنسان.
هنا قد يقول قائل إن ثقافة الشعوب معطى دائم، ولا تتبدل مع الزمن، فتتكيف مع السائد أو تخضع له، لكنه يغفل ما تفعله التجارب المتراكمة من تغييرات في المجتمعات، فتؤدي بها إلى الأحسن، عندما تحدد سقف الطموح، وتكتسب، بالموازاة مع ذلك، قيما جديدة تصلها بالأفق المطلوب.
ينطبق ما سبق على الجو الحالي في الجزائر، المتميز بتحديات سياسية واجتماعية واقتصادية على مختلف المستويات، من أعلى الهرم إلى قاعدته، وكثير منها مما سبق رؤيته في محطات عديدة قد مضت من دون أن تتبدل العقليات في التعامل معها، غير أن الجديد اللافت، هذه المرة، معايشتنا طفرة الإعلام والاتصالات المطواعة لشتى أنواع الاستعمال والتوظيف، حتى لكسب لقمة العيش، مثلما يفعل القراصنة عبر الشبكة، وقد شغل أحدهم الرأي العام أخيراً.
وعندما التقت المقاربات التقليدية مع الثورة الإعلامية، لم يكن الحاصل إلا زيادة لقطر الدائرة الفعالة لانتشار العقليات والممارسات التي ما فتئنا نعض عليها بالنواجذ، أي أصبح للتشاؤم الجزائري ولثقافة الإشاعة والإقصاء، إلى جانب الاستهلاك من دون حس نقدي، ولنظريات المؤامرة العقيمة، صدى أوسع ومساحة أكبر للتفاعل، مما كانت عليه، فتنتج مزيداً من اليأس والانغلاق، تحت شعار الانفتاح.
إن لم يرافق التطور المادي تطور فكري تتضخم السلبيات وتزدهر، فنجد أن بعض الساسة يترحمون على أيام الحزب الواحد، مقارنة بالتعددية الشكلية، والحل لتجنب هذا البؤس أن نجعل من العقل موجها للأفعال، ومصدرا للتفكير خارج الصندوق القهري، إذ هناك فرق بين العقلانية والعقلية، فالأولى مشتقة من العقل الخالص، أما الثانية فتشير إلى جملة القيم والانطباعات المنتجة للسلوك العام، علما أن كثيراً منها يحل محل العقل، ولا يتخذه وليا.
إننا نجسد، بشكل كاريكاتوري، مقولة "القروي في المدينة"، حيث نسارع الخطى الحثيثة لنجيّر الحاضر للماضي بأخطائه وانتكاساته ونماذجه منتهية الصلاحية، وشعاراته التي تجاوزت عمرها الطبيعي، ونشجع الاستمرار في المسار نفسه لخنق كل بادرة أمل تطفو من بعيد، إذ نعمد إلى تفسيرها، بحسب ما تفتضيه الأهواء القديمة، وسطوة العقليات التقليدية التي حكمت على العقل بالحجر.
نحن، اليوم، بأمس الحاجة إلى تحديث العقليات، والخروج من القوقعة القديمة، حتى نكون أبناء العصر بامتياز، لا عن طريق الجر أو الاضافة. لن نتكلف الأفكار، فبمجرد أن نعلن القطيعة الجادة والتامة مع الرداءة المنتشرة، سيظهر البديل تلقائياً ليملأ الفراغ من الأفكار، ولا شك أن بذور التحديث قد زرعت في الأجيال الصاعدة، وتبحث عمن يمنحها فرصة النمو، بأن نقلب الأدوار قليلا فنتيح الفرصة للعقل الخالص، ونضع العقليات الرثة وراء الشمس، بعض الوقت على الأقل.

المثنّى - القسم الثقافي
المثنّى - القسم الثقافي
سرحان أبو وائل
مدون مغربي.
سرحان أبو وائل